للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الخلود والأدباء]

(مهداة إلى الأستاذ المازني)

للأستاذ عبد الحليم عباس

يعتقد الأديب - والأديب الناشئ على الأخص - بأنه الإنسان المصطفى لتأدية رسالة الحياة إلى الأحياء، وأن غيره. . . هذه المخلوقات التي لا تدين بالأدب ولا تتلقى وحي الفن، ليست خليقة أن تساميه، ولا أن تطال إلى مقامه. إنها تقف في حيث تأخذ عنه، وتسمع إليه. . . ومن ثم فهو خالد بخلود هذا الأدب، وما عداه - من عباد الله - فمن التراب وإلى التراب. . . وهذه قضيةٌ مسلم بها - في رأي الأديب - لا تحتاج إلى مماراة، ومن هنا يجيء هذا العنت، وهذه السلسلة من الخيبة والإخفاق في حياة الأديب. إنه يعجب من الناس كيف لا يقدرونه حق قدره، وكيف لا يتنحون له عن مقامه الذي هو خليق به، والذي أعدته الحياة له؟ ولم لا! وهذا العلم بالحياة، وهذه المذاهب الفلسفية، والتبحر في فنون الأدب، أليس من حقها أن تقدم صاحبها وتقدره من المجموع؟. . بلى بلى - هكذا يقول الأديب - ولكنه ظلم الحياة، وجحود الأحياء، فما عليه إلا أن يقف معانداً لهم، مناهضاً لهذه الحياة، ليُعاد إليه حقه السليب المهتضم. . .

وبين هذا العناد والإصرار يضيع الأديب حاضره، ويخرِّب حياته، وقد يخربه الجوع. . . قال لي أديب ناشئ: لست أنظر إلى الجراح الماهر إن لم يفهم الأدب أكثر من نظري إلى جزار

وقال لي آخر: سأترك العمل عند هذا الوزير لأنه سخيفٌ وبذئ؛ فقلت له: هل أصابك رشاش من بذاءته؟ قال: كلا؛ ولو حدث لأدَّبته؛ قلت إذن دعه وشأنه. قال لا أستطيع. وفي اليوم التالي أضاع أديبنا وظيفته. وقليل من رجال الأدب من ربحت تجارته الدنيوية، وأصبح من رجال الأعمال

مثل هذه الحوادث كثيرة نشاهدها في كثير من الأحيان، ونحتار في تعليلها؛ ولكن مردها في البعيد يعود إلى فهم الأدباء للحياة على ضوء الأدب، وإلى الذهاب في تقدير قيمهم، وإن من حقهم أن يتعالوا على الناس، لأنهم من طائفة الخالدين. . .

ويكبر الأديب، ويشب عن الطوق - كما يقولون - وتمر عليه صورٌ من الحياة، وتثقله

<<  <  ج:
ص:  >  >>