للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

في هذه السعادة؟

- أهكذا السعادة؟ كلا! لا تخدعي نفسك بالسراب. أجل نشأت في طفولة سعيدة أتبجح في دار كأنها الفردوس. ولكن اكفهر الجو منذ تخطيت عتبة الدار؛ أحاط اللهيب والدخان بالشرق الممزق، وكيف ينهض من تلقفت داره النار فانقضت في التراب كل مفاخره حتى لم تبق خربة من هذا الماضي المجيد؟ وبينما تململ تحت هذه المصائب تقطعت الديار فذهبت واحدة بعد أخرى، فلما نظرت ورائي لم أر داراً ولا ديَّاراً: ذهبت بها جميعاً أيدي الأجانب! فلم يبق في هذه القبة إلا يأس أمة خاسرة!

- أليس هو اليأس الذي كان يئن به عودك؟

كلا! لو أنَّت الكائنات كلها بَلْهَ العود ما ترجم النواح عن ألم متقد في الجوانح. يقول شاعر الهند الفيلسوف محمد إقبال: (احترقت من نغماتي المضطربة قلوب الأصدقاء، وإنما يحترق قلبي من النغمة التي يعجز عنها الغناء.) وكذلك أنا. فما سمع بعد من لسان مضرابي صوت الألم الذي يدوي في قلبي الخرِب! ذلك سموم، فكيف تبين عنه بضع آهات؟ نعم لم تبن عنه فما كنتِ الآن عارفة أمري إذ تغنيت بأغاني سعادتي! فلا تغضبي إن عجبت لظنك بي. لا تغضبي واعلمي أني نِضْو مصائب، أجالد هذه الأحداث التي تسمى القضاء. وقد عيَّ رأسي وذراعي بالجلاد المحتدم ليل نهار، لا أزال أتحامل وانهض. ولكن الشباب قد انهدم! وا حسرتاه! على أي حين قد انهدم: حين يئست من الظفر ونأى عني أمل النجاة وذهب الهلاك بكل خطوة خطوتها إلى المستقبل. وإلا فأية بلية لم تنل مني؟ أصورة وطني الذي انقلب كثباناً من الرماد؟ أم تعاسة أمتي الهائمة بغير وطن؟ أم عشي اليتيم الذي عصفت به ريح الخريف؟ أم أسرتي المرزأة، التي ذرتها الرياح في الأرجاء؟ أم معابدي ومقابري التي طمسها البلى؟ أم حرم كعبتي الذي أقفر إقفار البيداء؟ أم ديني الذي دمى قلبه دهراً حتى وقع؟ أم نعيب البوم على هذه الخرائب خرائب الإحساس؟

وبعد فأية فاجعة لم أصل بنارها؟ لست اعلم ما طواه لي الغد فهو الآن سر محجب، ولكن إن تسأليني عن مصائب اليوم فأليك إجمالها:

ارتمت بي في اليم سفينة بالية. فاكبر ظني أن لن أعاود الحياة، وكنت أعزي نفسي حين أرى أساطين عشيرتي بجانبي تتقلب بنا الخطوب معاً. فثارت العاصفة ومزقت أضلاع

<<  <  ج:
ص:  >  >>