للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

والشتاء في أول عوامل التعمير والبناء في صرح الاجتماع، فلولا الشتاء لما كان الموقد، ولولا الموقد لما كانت الأسرة أو لتأخر نشوءها أمد طويلاً، ولولا الأسرة ما كانت قبيلة، ولولا القبيلة ما كانت دولة ولا مملكة. فأنت ترى أنه لولا الشتاء وضرورة اجتماع الأفراد حول النار للاصطلاء وطلب الدفء، لظل نشوء الأسرة رهناً بحوادث وظروف أخرى طارئة قد تقع وقد لا تقع.

وفي الشتاء يقل الأجرام قلة ملحوظة، وذلك أن الناس يقلون من الغدو والرواح ويعتكفون في بيوتهم مما لا يهيئ للصوص فرصاً عديدة للسلب والنهب. وفيه كذلك يسمو مستوى الحياة العائلية. فالأب يرى بنيه وزوجه، يخالطهم ويباسطهم ويقيم بينهم وقتاً أطول، فلا الزوجة ساهرة مسهدة، ترقب دامعة العين والقلب أوبة الزوج من إحدى زوراته الليلية، ولا البنون يلتمسون حنو الأب وعطفه عليهم ورعايته لهم وانتباهه إليهم فلا يجدونها، ولا العاشق المفتون ييسر له كل اليسر أن يتسور على الناس الدور ليسطو على الأعراض ويلغ فيها ويفسد

وفي الشتاء تقل الضوضاء ولا يقطع على الناس في الليل وأطراف النهار هدوءهم لغط الباعة وهرجهم وصراخهم وضجيجهم في الشوارع والأزقة وأمام الدور والمدارس والمستشفيات وفي كل محل تجوس خلاله أقدامهم

هذا ويعلم الشتاء الناس الحذر والحيطة، فلا يجدي معه أن تهمل لباسك أو تهمل أمور بيتك أو تهمل استشارة الطبيب أو تغامر في الأدلاج والسير فإنه على خلاف بقية الفصول، سريع حاسم في عمله، ولا يدع لك فرصة للمطل والمراوغة وترك التبعات المفروضة عليك نحوك ونحو بنيك وذويك.

ويعلمنا الشتاء بتقلبه واختلاف وجوهه وقوة تنبيهه دراسة الطبيعة وحسن الاستدلال بالأمائر والإشارات على حال الجو من دفء أو قر أو إمطار أو انحباس وخلافها. والبدوي أسرع الناس استدلالاً وأسوغهم معرفة وأصدقهم فراسة بشؤون الجو، لأن للشتاء عنده من المعاني غير ما له عند الحضري وساكن المدينة

ومن أنعم الشتاء على الناس وفضله العميم انه يحجب عن الأبصار كثيراً من مشاهد القبح والتشويه المغثية مما تقذى به العيون، وأنه يحجب كذلك الكثير من مظاهر الفتنة والجمال

<<  <  ج:
ص:  >  >>