للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ظهروا حين طغت تيارات الترف والمادية والشكوك، على المجتمع والعقائد في العهد العباسي كبشار وأصحابه، وأبي نواس وأضرابه، أولئك ساقهم تفكيرهم إلى تصغير الحياة وما يقدس الناس من مثلها العليا، فلم ينبذوا الحياة جملة بل راحوا يطفئون غليل نفوسهم المتحرقة في لذات الحياة الدنيا، ويشبعون غرائزهم الحيوانية متهكمين بما عدا ذلك مما يسميه المجتمع فضائل وعظائم وعقائد. وأبو نواس هو القائل:

وما هنأتك الملاهي بمث ... ل إماتة مجد وإحياء عار

والقائل:

قلت والكأس على كف ... ي تهوى لا لتثامي:

أنا لا أعرف ذاك ال ... يوم في ذاك الزحام

وإنما حرضهم على سلوك تلك السبيل ما كان يسود عصرهم من حرية تقرب من الإباحية، وما كان يسود المجتمع العربي دائماً من صراحة لا نظير لها في المجتمع الإنجليزي، حيث التقاليد الاجتماعية شديدة الصرامة، فعلى حين كان يتأتى لبشار وأبي نواس وأضرابهما أن يباشروا وهم معافون حياة الاستهتار التي باشروها، ويتهكموا بعقائد غيرهم ما شاءوا، ويترنموا بمخازيهم شعراً، نرى بيرون الذي لم يجر إلى مداهم يلفظ من المجتمع الإنجليزي الذي بجله من قبل لشعره وحسبه

وحياة المعري وبشار موضع لموازنة ممتعة: كلاهما عاش كفيفاً، أي مكفوفاً إلى مدى بعيد عن كثير من مسرات الحياة ومتعات المبصرين، فخلقت فيهما تلك الحال وحشة وشذوذاً وزراية على الحياة والأحياء، ولكن المعري كان دقيق الحس مرهف الأعصاب ضعيف البنية، فنفض يده من الحياة ونجا بالسلامة والكرامة، وبشار كان مفرط الجسم متنزّي الحيوانية مضطرم الشهوة، فأكب على إشباع شهواته مستهدفاً لزراية الآخرين وتهكمهم، وشهر عليهم سوط لسانه المقذع، كما يشرع السبع المنهمك في تمزيق فريسته مخلبه لذب غيره من السباع عنها.

تلك مظاهر التشاؤم، أو فقه الإيمان بسمو الحياة والعزاء النفسي عن شوائبها، في الأدبين العربي والإنجليزي، وفيما عدا ذلك كان أقطاب الأدبين - لما يتدفق في شرايينهم وشرايين أمتيهم من دفعة الحياة - متفائلين متشبثين بأهداب المثل العليا التي ترضاها لهم طبائعهم

<<  <  ج:
ص:  >  >>