للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عن التزيّد والافتراء، والحشو والكذب، لتأييد أمر له فيه غرض ومآرب. وثمة عناصر فارسيةً من الشعراء والأدباء لا يتحرجون من اقتحام الدين والخروج على الأوضاع، فكل همهم إشباع الجسد، وإمتاع القلب. وفيهم من يذهب في التظرف مذاهب، فكان من الطبيعي أن تقوم مسألة (المزاح) عند كل فريق من هؤلاء باعتبار، وأن يجري فيها القول على خلافٍ، إذ لكل هوى ومنزع، وقدعرض الجاحظ أقوالهم أجمل عرض فقال: (وقد ذهب الناس في المزاح إلى معانٍ متضادة وسلكوا منه في طرق مختلفة، فزعم بعضهم أن جميع المزاح خير من جميع الجد، وزعم آخرون أن الخير والشر عليهما مقسومان، وأن الحمد والذم بينهما نصفان) وبعد أن أتى الجاحظ على جمل هذه الأقاويل أخذ في إعلان رأيه فقال: (ونحن نعوذ بالله أن نجعل المزح في الجملة، كالجد في الجملة، بل نزعم أن بعض المزح خير من بعض الجد، وعامة الجد خير من عامة المزح، وقد يكون الكلام في لفظ الجد ومعناه معنى الهزل، كما يكون في لفظ الهزل ومعناه معنى الجد، ولو استعمل الناس الدعابة في كل حال، والجد في كل مقال، وتركوا التسجيح والتسهيل، وعقدوا أعناقهم في كل دقيق وجليل، لكان السفه صراحاً خيراً لهم، والباطل محضا أردّ عليهم، ولكن لكل شيء قدر، ولكل حال شكل، فالضحك في موضعه، كالبكاء في موضعه، وكذلك التبسم والقطوب، والمنع والبذل، فأن ذممنا المزاح ففيه لعمري ما يذم، وإن حمدناه ففيه ما يحمد، وفصل ما بينه وبين الجد أن الخطأ إلى المزاح أسرع، وحاله بحال السخف أشبه، فأما أن يذم حتى يكون كالظلم، وينفى حتى يصير كالغدر فلا، لأن المزاح مما يكون مرة قبيحاً ومرة حسنا، ولا يكون الظلم إلا قبيحا، وبعد: فمن حرّم المزاح وهو شعبة من شعب السهولة، وفرع من فروعه الطلاقة، وقد أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحنفية السمحة، ولم يأتنا بالانقباض والقسوة. .)

ولاشك أن الجاحظ في رأيه هذا قد وقف موقف العدل والأنصاف، وقال قولا هو غاية القصد. ولقد أحسن الرجل كثيراً إذ راعى (المقام) في حكومته بين الجد والمزاح، فقال بأن (لكل شيء قدر، ولكل حال شكل، فالضحك في موضعه، كالبكاء في موضعه، وكذلك التبسم والقطوب، والمنع والبذل) نقول: بل وكذلك كل شأن من شؤون هذه الحياة، وما أحسب أحداً في الناس يجهل أن وضع الندى في موضع السيف مضر، كوضع السيف في موضع

<<  <  ج:
ص:  >  >>