للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تراءت حتى لي أنا باسمة، ولم يلح سواها أمام نظري؛ جزيرة صغيرة خضراء ظهرت كأنما لا يزيد عرضها على ذلك إلا قليلا، قامت فيها ثلاث شجرات باسقات، وكانت تهب عليها نسمات الجبل وتجري بجوارها المياه، كما كانت تنمو فوقها زهرات جميلة اللون عاطرة الأنفاس.

ورأيت فيما رأيت السمك يسبح إلى جدران السجن؛ ولقد بدا للعين مرحا: وحداته وجماعاته؛ وأبصرت النسر يركب متن الريح الهائجة، ويخيل إلي إني لم أره من قبل في مثل تلك السرعة. وعندئذ اخضلّت عيناي بدمع جديد وتبلبل خاطري، وودت لو أني لم انطلق من تلك السلاسل، ولما نزلت أحسست كأن الظلمة في مأواي الكدر تقع عليّ كأنها حمل ثقيل: كانت كأنها القبر ينطبق عليّ من جهدنا في خلاصه، وأحس بصري وقد انقلب إلى هكذا محزوناً كأنه يطلب راحة كراحة القبر.

- ١٤ -

ولست ادري كم لبثت بعدها في ذلك القبو، ربما كانت شهوراً أو أعواماً أو أياماً. لم أحص لها عدداً ولم ألق إليها بالاً ولم يك ثمة من أمل يرفع عيني ويمسح عنهما القذى المحزن. وأخيراً اقبل الرجال ليطلقوني من الأسر، فلم أعن أن أعرف ما سبب هذا ولا حفلت أين اذهب، فلقد تساوى في النهاية عندي الفكاك والقيد. وتعلمت أن أصالح على اليأس نفسي. ولذلك حين اقبلوا يطلقونني وحين ألقيت جميع السلاسل جانباً، أحسست أن تلك الجدران السميكة قد صارت لي معتكفاً وأصبحت علي وقفاً؛ وكأني شعرت نصف شعور ساعتئذ إنهم أتوا ينتزعونني من وطنٍ ثان. لقد اتصلت بيني وبين العناكب أسباب الصداقة، وكنت أراقب عملها الدائب، كما كنت أرى الجرذان في نور القمر. وليت شعري ماذا يدعوني أن أحس أنني دون هؤلاء جميعاً؟ لقد صرنا آلاّفا جمعتهم وحدة المكان

وكنت أنا فيهم ملك الجميع، ولي الحول أن اقتل أنى شئت! ولكنا تعلمنا أن نعيش معاً هادئين، وذلك لعمري من عجيب الأمور! في ذلك السجن توثقت الألفة بيني وبين الأغلال ذاتها. وهكذا ينتهي بنا طول الاعتياد إلى ما نصير إليه فهأنذا الذي لاقيت ما لاقيت قد تنهدت حينما عادت حريتي إلي!

الخفيف

<<  <  ج:
ص:  >  >>