للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الحاضر التكريم والتأريخ الذي هو أدنى إلى الحقيقة دنو عصرهم من الأذهان، وأبعد من الخرافة والخيال بعد الإنسانية عن عصور طفولتها؛ أما في الأدب العربي فقد أنقطع ذكر الأبطال أو كاد بانتهاء عصر البطولة الجاهلية: أهمل الأبطال الجاهليون أو فازوا بالنظرة العابرة والذكرة العارضة، ولم يكن أبطال الإسلام أوفر منهم حظاً من عناية الأدباء. مهما كان نصيبهم من اهتمام المؤرخين ومكانهم في التاريخ

ولم يخل تاريخ العرب بعد الإسلام من أبطال يمجدون وتنسج حولهم القصائد الطوال، ولا أقفر تاريخهم من حوادث مملوءة بالوحي الشعري الصادق، بل أن تاريخ نهضتهم وبسط سلطانهم لهو ملحمة التاريخ الكبرى التي تزري بكل ملحمة، وتسخر من الوقائع الموضعية الضئيلة التي حاك حولها هوميروس قصيده الفاخر، وقد أنجبت تلك النهضة - بعد شخصية الرسول الكريم التي لم يجد بمثلها الزمن - نخبة من أبطال السلم والحرب، كخالد وعمر وعلي وابن العاص ومن عاصرهم وتلاهم من فحول الأبطال الذين لو تنجب أمة أعظم منهم. واحتوى تاريخ العرب على سير أفذاذ يستفزون الوحي الشعري خاصة، لما انطوت عليه سيرهم من طرافة وجاذبية: كالحسين الذي استشهد على أسنة الرماح آبياً أن يستأسر، وصلاح الدين الذي رفع لواء الإسلام وقصم ظهر الصليبيين في سورية، وعبد الرحمن الداخل الذي شاد من الفوضى دولة أزهر دول التاريخ، ومحمد بن القاسم، الذي فتح السند وهو يافع والذي قيل فيه:

ساس الجيوش لسبع عشرة حجة ... يا قرب ذلك سؤددا من مولد

ولكن الأدب العربي قد نبذ ذكر أولئك جميعاً ظهرياً، ولم يحتو من ذكر البطولة والحماسة والحروب إلا على وقائع ثانوية كفتح عمورية وأعمال أنصاف الأبطال، كبدر بن عمار، وغيره من ممدوحي الشعراء الذين كانوا يطمعون في رضاهم ونوالهم، فجاء مدحهم لهم شديد التكلف مغرقاً في التهويل؛ أما إذا لم يكن نوال ولا سلطان حاضر فلا بطولة تستهز نفس الشاعر، ولا عظمة تستدعي إعجابه وتستجيش وحيه، ولا يرد ذكر عظماء الجاهلية في القصيد إلا مستعارة صفاتهم وفضائلهم للمدوح مهما ظهرت فضفاضة عليه داعية إلى السخرية، بل كان أولئك العظماء يزدرون في مواقف الملق لأرباب السلطان: فقد قيل إن بعض الحضور عاب على الطائي تشبيهه ممدوحه (بأجلاف العرب) حين أنشد سبيته في

<<  <  ج:
ص:  >  >>