للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ذلك في العامة، ودون بعضه في قصص ألف ليلة وأشباها، وظل بعضه غير مدون يتداول شفاها

ولم يكن الأدباء أنفسهم أقل من العلماء والتجار حباً للتجوال وجوباً للأقطار، بل كانت الرحلة عندهم جزءاً من منهاج الدرس والتأدب لا غنى عنه. فكانوا يشدون الرحال إلى العواصم، ويشخصون إلى العلماء والأدباء المتقدمين ويقصدون دور الكتب التي أولع بإنشائها الأمراء، فإذا ما قضوا من ذلك وطراً التفتوا إلى طلب الحظوة والنوال، فنصوا المطايا إلى أبواب الملوك والخلفاء. فإذا تمت لهم الحظوة وأضواهم الملك تحت ظله صحبوه في قليل أو كثير من رحلاته وغزواته، كما صحب عباس بن الأحنف الرشيد وابن هانئ الأندلسي المعز. فحظ أدباء العربية عامة من الرحلة لم يكن بالضئيل حتى أبو العلاء الكفيف لم يقعده عماه عن ركوب مشاق الأسفار والشخوص إلى العواصم

وقد ضرب كبير شعراء العربية المتنبي في الرحلة بسهم وافر: قضى شطراً من شبابه في البادية، وجاب أطراف العالم العربي، وقصد الأمراء ما بين فارس ومصر، وصحب سيف الدولة في حروبه، ومات وهو على سفر، وامتلأ شعره بذكر الرحلة والشغف بها والتمدح بتعوده إياها، ووصف الخيل والإبل وذكر الليل والفلاة وتفضيل النياق على الغواني. وقد كان يحب الرحلة حباً أصيلا لا تكلف فيه ولا ادعاء للبأس والفروسية: كان دوام التأهب والنقلة يشفي من نفسه الطامحة إلى جلائل الأعمال صداها، ويستوعب نشاط جسمه المتحفز للنضال وحمل الأعباء. لم تتهيأ له الفرصة لمجالدة الأبطال وتضريب أعناق الملوك فاعتاض عن ذلك مجالدة قوارع الطبيعة ومجابهة شدائدها. ومن رصين أشعاره في ذلك قوله:

ذراني والفلاة بلا دليل ... ووجهي والهجير بلا لثام

فإني استريح بذا وهذا ... واضوي بالاناخة والمقام

وقوله:

غني عن الأوطان لا يستفزني ... إلى بلد سافرت عنه إياب

فحب الرحلة كان أمراً شائعا في الدولة العربية، يدعو إليه توطيد الملك وبسط السلطان وابتغاء الرزق، ونقل التجارة ونشدان العلم والأدب وتأدية مشاعر الدين. وقد أدلى الأدباء

<<  <  ج:
ص:  >  >>