للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

درس مسائل المجتمع كافة

والعصر الرومانسي في الأدب العربي هو ولا شك عصر الجاهلية والعهد الراشدي وصدر العصر الأموي: في تلك العهود وكان المجتمع العربي أدنى إلى البساطة والتبدي، وكان الأدب مرسل السجية صادق التعبير عن خلجات النفوس: من حزن وطرب ولذة وألم، وحب وبغض وحماسة ووصف، خالياً في أكثر نواحيه من مظاهر التكلف اللفظي أو التعمل في المعنى أو التصنع في الموضوع. وما تزال لحكم بعض الأعراب والأعرابيات ومراثيهم، وحماسيات قطري بن الفجاءة وغزليات جميل وقيس، روعة في النفوس وغبطة شاملة، لصدورها عن طبع سليم وشعور صميم؛ هذا على رغم بساطة ذلك الأدب وخلوه من مظاهر التثقف والتعمق في التفكير

تجرم ذلك العصر بطول عهد العرب بالحضارة والثقافة، ومهدت حضارة المدينة وثقافتها من أسباب القول ودواعي النظم ووسائل التفنن الأدبي ما لم يتوفر في البادية، فنشأ من ذلك أدب جديد يفوق أدب العصر السالف تعدد مواضع وعمق نظرة ووفرة محصول، وتجلى ذلك في خير آثار ابن الرومي والطائي والمتنبي والمعري، والجاحظ والبديع والجرجاني وأضرابهم. على أن الأدب في طوره هذا انغمر في جو المدينة انغماراً تاماً، فكان هذا عهداً كلاسياً صميماً: فيه تزايد ولوع الأدباء تدريجاً باللفظ. واحتفاؤهم به، ثم استعبادهم أنفسهم له وللأوضاع والمبادئ الموروثة عن المتقدمين. وضاقت مواضيع القول رويداً رويداً وكبلها التكلف والإغراب، وتجمع الأدباء حول موائد الأمراء ورجال السياسة والحكم والحرب، وخاضوا غمار مشاحناتهم، وتشاحنوا هم أنفسهم فيما بينهم، وهي مشاحنات تذكرنا بحملات سويفت ودريدن على الوزراء والقواد في عصرهما، وحملاتهما على غيرهما من الأدباء، فمن هجاء الوزراء قول دعبل في وزير المأمون:

أولي الأمور بضيعة وفساد ... أمر يدبره أبو عباد

يسطو على جلاسه بدواته ... فمضمخ بدم ونضح مداد

ومن تهاجي الشعراء قول ابن الرومي في البحتري:

أف لأشياء يأتي البحتري بها ... من شعره الغث بعد الكد والتعب

البحتري ذنوب الوجه نعرفه ... وما عهدنا ذنوب الوجه ذا أدب

<<  <  ج:
ص:  >  >>