للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[جميل صدقي الزهاوي]

بمناسبة ذكراه الأولى

(٢)

ولد الزهاوي في يوم الأربعاء الثامن عشر من شهر يونيو سنة ١٨٦٣ ببغداد لأبوين كرديين كريمين تميزت أسرتهما بالدين والفقه والأدب، فقد كان أبوه محمد فيضي الزهاوي مفتياً لدار السلام وأخوه فقيها من فقهائها، فنشأ بين أبيه وأخيه يرتاض عقله ليتثقف، ويرتاش خياله ليطير؛ ولكن أخاه كما حدثني جميل، كان حثر اللسان لا يتذوق الأدب؛ فكان يذوده عن رواية الشعر، ويصده عن دراسة اللغة، ويأبى عناده هو وتسامح أبيه إلا أن يديم النظر في الأدب، ويروض القريحة على القريض. كان هم أخيه وأمل أبيه أن يستقيم على عمود أسرته فيكون صاحب قضاء وفقه، ولكنه استقام على محتوم طريقته فكان صاحب دعوة وفلسفة. والاستعداد الموهوب في الطبع هو مشيئة الخالق في الخلق، جعل من الزهاوي أبا العلاء فقد كان أهله يريدونه أبا حنيفة؛ وجعل من الرصافي أبا نواس وألالوسي رحمه يريد أن يبعث في معروف الرصافة معروف الكرخ!

كان العراق أيام نشأ الزهاوي تركي السلطان سني الحكومة، فالتعليم المدني فيه كان تابعا في لغته وطريقته وغايته لسياسة الأجنبي وهواه، فلم يخرج إلا رجال جيش يخضعون للنظام، أو رجال إدارة يذعنون للحكم. أما التعليم الديني فقد ظل في صحون الجوامع على ما عهده الناس، عربي اللسان حر النزعة طريق الفكرة مستقل الغاية. وطبيعة هذا النوع من التعليم الجدلي المطلق أن يخلق المجاهل لشعور البليد فيظل، ويكشف الآفاق للفكر النافذ فيبلغ، ويساعد الجبلة في الإنسان على حسب الاستعداد فتعلوا أو تهبط؛ فهو يساعد الهمة القاعدة على السقوط، والنفس القانعة على القنوط، والذهن المبطئ على التخلف، كما يساعد العقل الحائر على التزندق، والطبع القلق على التمرد، والإدارة المستقلة على الزعامة. ورجال الثورة والإصلاح في تاريخنا الحديث كانوا جميعا من أهل هذه الثقافة، كالأفغاني، وعرابي، ونديم، ومحمد عبده، وسعد زغلول، والكواكبي، والزهراوي، والزهاوي، ومن إليهم. والنابهون من أهل هذه الثقافة لا ينفكون دائبين على القراءة والتتبع والمشاركة ليدفعوا عن أنفسهم معرة القدم. وهم عسيون إذا جددوا أن يفسروا في التجديد

<<  <  ج:
ص:  >  >>