للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

فهذه الصور التي صورها عن التطور البشري صور مغرية فيها بعض الحق وناحية من الصواب، ولكنه ليس كل الحق ولا معظم الصواب. فهو قد تجاهل عاملاً هاماً له أثره الخطير. تجاهل هذا التوازن الدقيق الذي نشاهده في قوى طبيعية. فلا يرتفع جزء من الأرض إلا انخفض جزء، ولا يهدم بناء إلا وقام بناء ولا يتشقق صخر إلا التأم آخر.

وهكذا لا يمكن أن يقوى العقل الإنساني إلا على حساب الجسم ولا تتاح للعضلات أن تضخم إلا إذا فقد العقل بعض قوته. وهذه الصورة التي أعطاها ويلز عن إنسان الغد مبالغ فيها إذ يختل فيها التوازن اختلالاً واضحاً.

فها هو الإنسان إنسان منذ العصور التاريخية وليس هناك من يزعم أن مقدرة العقل الإنساني أو قوة جسمه قد زادت زيادة تسمح لويلز أن ينسب لرجل الأجيال القادمة قوة عقل خارقة يصحبها قوة جسدية لا حد لها.

وهذا التوازن ينساه مرة أخرى في الصور التي يبدعها عن مجتمع الغد. فنظرية ماركس القائلة بأن الثروة مصيرها إلى التجمع في أيدي نفر قليل، والتي أخذ بها ويلز نظرية لا يتاح لها أن تتحقق، فالثروات اليوم تتجه إلى التوازن، وعامل اليوم يساهم في الشركات التي تقوم عليها الأمور، والمال يتبدد ويتوزع بين الأفراد، والأزمات المتلاحقة تهدد من كيان بيوت المال الضخمة، ومن كبار الأغنياء أكثر مما تقلل ثروة الفقير أو العامل الأجير.

لذلك نأبى تصديق ويلز فيما ذهب إليه من أن الإنسانية قد تنقسم طائفتين متباينتين. بل نرى عكس ذلك، فالعامل في رقي عقلي يساعده ما يجد من ساعات فراغ كان لا يجدها بالأمس، ويعاونه أتساع مجال الثقافة وانتشار التعليم انتشاراً سريعاً.

ثم أن الفروق الاجتماعية في طريقها إلى الزوال، فالكل قد تساووااليوم في الحقوق والواجبات، والكل قد يتساوون غداً في العلم والثروة. ونظام الطبقات الذي كان يضع فواصل من حديد بين الشريف والحقير هو في سبيله إلى الانهيار ان لم يكن قد أنهار منذ زمان.

ثم شيء آخر نوافق عليه ويلز ونخالفه فيه، نوافقه على ما يكتبه من تطور الإنسان الآلي وتقدمه في إخضاع عناصر الطبيعة. ولكنا نخالفه في أن هذا التطور قد يتجه بالإنسان إلى ناحية مادية لا يخضع فيها إلى قانون ولا يؤمن بدين ولا يعترف بخالق. إن ناساً كهؤلاء لا

<<  <  ج:
ص:  >  >>