للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وأنها تحصل منه على نوع من الرخام النادر تصدر معظمه إلى باريس بالذات دون بلاد العالم لكثرة الحاجة إليه في مبانيها الأنيقة الحديثة. وأن هذه الشركة قد أثرت من وراء هذا العمل ثراءً طائلاً. فأحببت أن نقف قليلاً لنصل بعمال هذا الحجر ونتحدث إليهم فنسري عن أنفسنا ونسري عنهم. وفي أمثال تلك البقاع النائية يصدق قول القائل: وكل غريب للغريب نسيب!

وكانت حالة السيارات تقتضي هذه الوقفة أيضاً، فإنها كانت قد شربت كل ما معنا من الماء وكانت في حاجة أيضاً إلى الماء. فترجلنا لنملأ صهاريجها، واتجهت وبعض من معي إلى أولئك العمال فإذا هم جميعاً من أهل الصعيد - تلك الطائفة النبيلة التي شيد أجدادها مجد الفراعنة وخلدوا آثارهم في وادي الملوك وغير وادي الملوك، وها هو ذا الخلف اليوم لا يجد من يستنجد بكتفه وذراعه غير الأجنبي فيلبي دعوة القوت وسط تلك الأصقاع السحيقة القاحلة يقضي عمره ويفني حياته في قطع الرخام وحمله ليجد هو في آخر النهار ما يسد به رمقه. ولينعم حسان باريس بالرونق البهي والرواء الحسن. وليقف المقاول الإيطالي بين الطرفين يستغل جهد المصري وثراء الباريسي في آن واحد.

وأردت أن أعرف من أين يحصل هؤلاء العمال على الزاد والماء - ولعل الباعث الخفي لسؤالي كان حرصي على الاطمئنان على نفسي ومصيرها في هذا القفر قبل أن يكون إشباع حب الاستطلاع فيها عن حالة هؤلاء المساكين - فقيل لي بأن باخرة تقدم من السويس كل شهر تقريباً فتحمل إليهم الزاد والماء الذي يكفيهم حتى موعد الزورة التالية، فبدت عليَّ أنا وزملائي علائم الإشفاق والرثاء. ولكن جرنا الحديث إلى ذكر المنائر التي تقع على شاطئ البحر الأحمر والتي تضم كل واحدة منها ثلاثة من الموظفين المصريين في حالة عزلة تامة عن العالم لمدة تسعة شهور، إذ أن كل منارة من هذه المنائر يديرها أربعة من الموظفين يعمل كل واحد منهم تسعة شهور متتالية في العام ويحصل على إجازة سنوية تستغرق الثلاثة شهور الأخرى. ولذلك فإن ثلاثة منهم فقط يجتمعون في العمل ويكون الرابع في إجازته، حتى إذا عاد هو قام من يكون عليه الدور وهكذا. وأن الواحد من هؤلاء الموظفين متى استلم عمله في فنارة فإنه ينقطع عن العالم وأخباره حتى يحل موعد وصول الباخرة التي تأتيهم بالطعام والماء مرة في كل شهر. وهم من خلال هذا

<<  <  ج:
ص:  >  >>