للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

من اتخاذ المسكن وزينته وتدوين المهم من الأحكام والمواعظ والأخبار ثم العلوم، فإذا ما اطرد سلم الرقي تخلص الفن من تلك الأغراض الخارجية وصار غرضا في نفسه ومتعة في ذاته، وتعبيرا عن الشعور خالصاً، وعبادة للجمال منزهة.

إذا ما دخل الأدب هذا الطور الفني، صارت الصنعة الفنية فيه اظهر والتجويد أوضح، وليس يخلو الشعر حتى في بداوته من صنعة ومعالجة وتجويد، وبغير هذه لا يتصور له وجود ولا لسلكه انتظام؛ بيد أن الأديب في الطور الفني يصبح اكثر بصراً بتجويد اللفظ وتنسيق الأسلوب وتجميل المعنى، لما يمتاز به دون شاعر البداوة من ترفه المعيشة ورقة الذوق وسعة القراءة، والاطلاع على الآثار الأدبية والقواعد والآراء، فكلما أمعن الأدب في طوره هذا زاد الأدباء لألفاظهم تخيراً وتسهيلا، ولأساليبهم تقسيما وتذليلا، ولمعانيهم. استقصاء وتوضيحاً

وتزداد موضوعات الأدب اتساعا وبعدا عن أسباب الحياة الشخصية الحاضرة، وتحليقا في عنان الفكر وأجواز الخيال وآفاق الماضي والمستقبل: فعلى حين يكون اكثر ما ينظم من شعر البداوة نتيجة حادث طارئ أو خاطر عابر، يتوفر الأديب في الطور الفني على تقصي غايات التفكير، إرضاء لنزعة التأمل والتفكير في ذاتها وعلى توخي مناحي الفن حبا للفن وحده، ويمسي الأديب ويصبح ولا هم له إلا استقصاء حقائق الحس والمشاهدة وتصويرها في أدبه، وتكثر في الشعر والنثر آثار التأمل الطويل والوصف الفني

وإذا ما تكاثرت الآثار المتجمعة بالتدوين جيلا بعد جيل، وزخر التراث الأدبي بما تجود به قرائح الأدباء من فيض، إذا انقضت سحائب منه أعقبت بسحائب كما يقول الطائي، وكثر نظر الأدباء فيها واستظهارهم لها واحتذاؤهم إياها، لم يعدموا أن ينتبهوا إلى شواهد فيها تتكرر وحقائق تتماثل، وجزيئات تندرج تحت كليات، فاستخلصوا من كل ذلك قواعد يجعلونها نصب أعينهم في الإنشاء، ثم يحتفي بعضهم بجمعها وتبويبها والاستكثار منامثلتها، فتكون من ذلك علوم المعاني والبيان والبديع، وكتب النقد والموازنة والتحليل، وبرغم أن الفن سليقة والأدب ملكة لا اكتساب، والشعر طبع لا تطبع فان تلك العلوم وهاتيك الكتب المستحدثة تترك أثرها في تقويم السلائق، وتوجيه الملكات وتحسين البصر بالأدب وأسبابه وجمع أشتاته ولم أطرافه، ولا يستأثر النثر بهذا التبصر في الأدب بل ينظم

<<  <  ج:
ص:  >  >>