للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

سالف العصور.

فالقصة ضرب من الأدب مرن، يجمع مزايا الشعر كالخيال والعاطفة إلى مزايا النثر كالرحب والدقة والاستقصاء والفائدة العملية، وهي بهذا تلائم العصر الحديث أكبر ملائمة، وهذا سر ذيوعها حتى كادت تعطل ما عداها من ضروب القول، فقد تهيأت الأسباب من القرن الثامن عشر إلى اليوم لنهوض القصة الفنية، التي تدرس نفس الفرد وحياة المجتمع وتحلل العواطف وتشرح الآراء والمبادئ، وذلك برقي السواد الأعظم من الأمة بعد أن كان هملاً في غابر العصور، وانتشار التعليم العام وبروز شخصية الفرد وذيوع مبادئ الحرية والديمقراطية، هذا إلى ارتقاء الطباعة واعتماد الأدباء على الجمهور القارئ لا على رعاية الأمراء والوجهاء.

ولم تقتصر القصة في رقيها هذا الحديث على أن تميزت واستقلت ضرباً قاتماً من ضروب الأدب، يتوفر على ممارسته بعض أقطاب الأدب، بل تطورت القصة تطوراً داخلياً، وتميزت فيها ضروب من القصص يتوفر على كل منها بعض القصصيين: فهناك القصة التاريخية التي تدور حول الملوك والعظماء السابقين، والقصة البيتية التي تصور المجتمع المتواضع تصويراً شائقاً، والقصة لنفسية التي تحلل بواطن النفوس معتمدة على نظريات علم النفس الحديث أحياناً، والقصة الإصلاحية التي تحاول تحسين حال العامل أو تعديل بعض النظم القانونية أو الاجتماعية، أو تقويم بعض المعتقدات والتقاليد، والقصة المستقبلية التي تتنبأ بما سيصير إليه الإنسان وتحاول تسديد خطاه إلى ما يجب أن ينزع إليه في مستقبله، والقصة البوليسية التي تعرض حيل المجرمين وخطط متعقبيهم من الشرطة، وقصة المغامرات التي تصف أعمال بعض الأفاقين ورحلاته في المجاهل.

هكذا يتطور القصص، من نوادر وأساطير بدائية واهية القصد منتشرة النظام، إلى صور فنية محكمة، ومن أشباح مبهمة وحوادث متضاربة إلى شخصيات ناطقة وسياق منطقي منسجم، ومن الخرافي والخارق والبعيد إلى الواقع والعلمي والحاضر، ومن الماضي بآلهته وأبطاله وعظمائه إلى الحاضر بمشاكله العادية وأفراده المشهودين، ومن اللفظ الطنان والخيال الشارد والعاطفة الثائرة إلى المعنى المتدبر والتأمل الهادئ والوصف المفصل؛ وهذه الصفات التي تكتسبها القصة في طورها الراقي تكتسبها معها أو بعدها الرواية

<<  <  ج:
ص:  >  >>