للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[على أطلال الماضي]

ساعة في. . . (سُرَّ مَنْ رَأَى)

(في السنة الآتية يكون قد مر على إنشاء سر من رأى ألف ومائة سنة)

ع

. . . الآن رجعت من التاريخ. إني أرى الدنيا صغيرة خابية لأني كنت في دنيا أكبر منها وأحفل بالنور والعطر: كنت في (سر من رأى)!

جلست أدون رحلتي إلى الحلة (دمشق العراق) ووقوفي على أنقاض بابل (أخت الدهر) وزيارتي السدة الهندية (القناطر الخيرية الثانية) وما أولاني الحليون من ألوان المنن وأنواع الكرم. . . فلم أكد أمضي في المقالة حتى عرضت لي رحلة جديدة إلى سر من رأى. . . ومنذا الذي لا تفتنه سر من رأى؛ ولا تهيج بلابل أشواقه؟ ومنذا الذي نظر في كتب التاريخ أو شدا بشيء من الأدب ثم لا يعرفها ولا يحس أن لها صلة بنفسه؟

رددوا هذا الاسم الجميل عشر مرات بصوت خافت كأنه مناجاة النفس، بطيء كأنه هجس الضمير، وأنتم تنظرون بعيونكم إلى بعيد، تحدقون في غير شيء، فعل من يتذكر أمراً، ثم انظروا كم يثير في نفوسكم من ذكر وحوادث، وفكر وعواطف، أقل ما توصف به، إنها لا توصف، وكيف تحتويها كلمات وهي عالم؟ وكيف تنتظمها لغة الأرض وهي من لغة السماء؟ ومتى كان الإنسان ناطقاً مبيناً؟ إن هذه اللغة رموز ضئيلة، كائنات عظيمة؛ إن العواطف مئات ومئات وما ثم إلا كلمة واحدة. . . وكذلك الجمال والحب والطبيعة. . . لا. إن الإنسان لا يزال طفلا لم يتعلم النطق ولم يحسن البيان!

سر من رأى، وما سر من رأى؟ هي التي نهضت لبغداد لما كانت بغداد عاصمة الأرض. ولما بلغت غاية المجد وابعد الأماني، وبذت كل مدينة، وكان فيها مليونان من السكان، وكان فيها العلم والفن والسلطان. . . نهضت لها تزاحمها وتنافسها، فلم تكن إلا ليال حتى غلبتها وبهرتها، وتربعت على دجلة من فوقها، وسلبتها خلفيتها وأبهتها وحلة أبنائها، وكانت اجل منها وأعظم.

سر من رأى، المدينة الملوكية، التي ولدت فجأة فإذا هي أجل المدن، وإذا في كل ناحية منها عرش، وفي كل بقعة منها عرش، وإذا هي تتشح بالنور وتتضمخ بالعطر، وتنام على

<<  <  ج:
ص:  >  >>