للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

والجمال من خرافات الأقدمين، وإرضاء الفن بنظمها وتجديد شبابها، وعرض آثار الرحلات التي يقوم بها الأديب ووقعها في نفسه، والسبح في عوالم الخيال البعيدة الساحرة، والضرب في أعماق الماضي وآماد المستقبل وآفاق الإنسانية الواسعة، كان الأدب العربي - لاعتماده على صلات الأمراء - في شغل شاغل بحاضر العيش وقريب المطلب عن كل تلك العوالم الزاخرة بالفن والحياة والشعور والمتعة، فأهمل بعضها ولم يمس بعضها إلا مساً رفيقاً، وبكل هاتيك العوالم وذخائرها وأصدائها يحفل الأدب الإنجليزي

هذا الاختلاف المطرد الشامل في البيئة والمجتمع والموضوع والأسلوب، مرجع ذلك الاختلاف الرائع الملحوظ بين كتب الأدبي العرب وكتب الأدب الإنجليزي، وفحول هذا وأقطاب ذاك، وسيرهم وآثارهم وعقليا تهم وشخصياتهم، حتى ما نكاد نرى في الأدبين شاعرين متماثلين أو كاتبين يذكرنا إحداهما بالآخر، من جهة العقلية والأسلوب أو الموضوعات، أو يتشابه موضوع كتاب هنا وموضوع كتاب هناك، أو تخال فكرة قصيدة في هذا الأدب صادرة عن نفس الحالة النفسية الصادرة عنها أخرى في الأدب الآخر، ليس هناك شيء من ذلك، وليس بين الأدبين إلا التباعد والتناكر، كما يتباعد ويتناكر شخصان غريبان مختلفا الموطن والنشأة والتربية، والعقيدة الدينية والثقافة، والنزعة في الحياة والمتجه في التفكير

فإذا وازنا بين كبيري شعراء الأدبين، المتنبي وشكسبير، بدا لنا الاختلاف والبون العظيم: فجانب كبير من شعر المتنبي موقوف على المدح والهجاء، ولم يقل فيهما شكسبير حرفاً، وشعر المتنبي مليء بالحكم البليغة الموجزة المتجاورة يزاحم بعضها بعضاً وشعر شكسبير حافل بوصف الشخصيات وتحليل النفوس تحليلاً مسهباً لا يتوخى بلاغة الإيجاز في شيء؛ وبجانب المدح والهجاء والحكمة وما يتصل بذلك لم يكد المتنبي يطرق موضوعاً آخر بعيداً عن دائرة حياته الشخصية، بينما روايات شكسبير وقصائده تعج بوصف الطبيعة وتقديس الفنون كالموسيقى وتمجيد الأبطال، وتضرب في شعاب الخرافة وأرجاء التاريخ؛ وشكسبير يراوح في نظمه بين أشكال الشعر المختلفة، بين الشعر المرسل والدوبيت والسونيت، والفقرات المتراوحة طولاً، المتداخلة القوافي، وقد دعي ضرب من السونيت باسمه لما أكسبه بعبقريته من مرونة، على حين ظل المتنبي - وهو الشاعر العظيم المتمكن من اللغة

<<  <  ج:
ص:  >  >>