للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

حكم على الشيخ عبد العزيز شاويش في مقاله: (طبقات الكتاب) حكماً شديداً ورطه فيه على ما أظن صلته بالمؤيد وبالمغفور له سعد باشا، والشيخ شاويش يومئذ محرر اللواء، بعد مصطفى باشا كامل، ولطه به اتصال، فحرضه على أن ينقد (النظرات) فنقدها ذلك النقد الغاضب الصاخب في ثلاثين مقالة ونيفا لم تدع سبيلاً إلى التعارف بيننا وبينه

ثم زاولت التعليم فكنت أستعيد قراءة المنفلوطي مقسما بين أقلام الطلبة. وفي سنة ١٩٢٠ ترجمت (آلام فرتر) وكان صاحب العبرات يومئذ قد بلغ الغاية في الشهرة والأدب، فرغب في أن يراني؛ وكان لنا صديق مشترك فجمع بيننا في داره؛ ورأيت المنفلوطي لأول مرة فرأيت رجلا مجتمع الأشد، مربوع الخلق، ممتلئ البدن، غليظ الشارب، حسن السمت، لا تلحظ على وجهه المطهم المصقول مخايل الفنان ولا سهوم المفكر؛ ثم تحسبه وهو يحدثك حديثه المقتضب الخافض سريا من عامة السراة في الصعيد لاحظ له من بلاغة اللسان ولا رياضة القلم. ثم داخلته فتكشف لي عن ألمعية أصيلة تستتر عادة بين الحياء والحشمة؛ ووثق الود بيني وبينه توافق المزاج المنقبض والطبع الحي والوجود المنعزل، فدرسته على ضوء ما أعلم من نفسي فلم أجاوز الحق في تصويره وتقديره

كان المنفلوطي قطعة موسيقية في ظاهره وباطنه؛ فهو مؤتلف الخلق، متلائم الذوق، متناسق الفكر، متسق الأسلوب، منسجم الزي، لا تلمح في قوله ولا في فعله شذوذ العبقرية ولا نشوز الفَدامة. كان صحيح الفهم في بطء، سليم الفكر في جهد، دقيق الحس في سكون، هيوب اللسان في تحفظ. وهذه الخلال تظهر صاحبها للناس في مظهر الغبي الجاهل، فهو لذلك كان يتقي المجالس ويتجنب الجدل، ويكره الخطابة؛ ومرجع ذلك فيه إلى احتشام التربية التقليدية في الأسرة، ونظام التعليم الصامت في الأزهر، وفرط الشعور المرهف بكرامة النفس. ولكنك إذا جلست إليه رأسا إلى رأس، تسرح في كلامه، وتباري لسانه وخاطره في النقد الصريح والرأي الناضج والحكم الموفق والتهكم البارع، فلا تشك في أن هذا الذي تحدثه هو المنفلوطي الذي تقرأه. ثم هو إلى ذلك رقيق القلب، عف الضمير، سليم الصدر، صحيح العقيدة، نفاح اليد، موزع العقل والفضل والهوى بين أسرته ووطنيته وإنسانيته.

(للكلام بقية)

<<  <  ج:
ص:  >  >>