للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الذي عليّ للأدب والعربية، وصوت الفقيد العزيز يهتف بي حيثما توجهت: (إن لي عليك حقاً وإن للأدب عليك. . .!)

ولكني ما أكاد أمسك القلم حتى يكتنفني الشعور بالعجز فأكاد أوقن أنه لا أحد يستطيع أن يكتب عن الرافعي إلا الرافعي نفسه، ولكن الرافعي قد مات. . .

أيها الحبيب العزيز الذي ما أزال من كثرة ذكراه كأنني منه على ميعاد معذرة إليك!

وهاأنذا أحاول أن اكتب عن الرافعي؛ فلا ينتظر أحد مني أن أتكلم عن الرافعي الشاعر، أو الرافعي الكاتب، أو الرافعي الأديب، أو الرافعي الفيلسوف؛ فما يتسع لي الوقت، وما يرضيني عن نفسي ولا يقنعني بالوفاء أن أكتب عن هذه الحيوات الكثيرة التي اجتمعت في حياة إنسان؛ فلينهض لذاك غيري؛ ولكني سأكتب عن الرافعي الرجل الذي عاشرته زمناً، ونعمت بصحبته، وخلطته بنفسي، وتحدث قلبه إلى قلبي، وتكاشفت روحه وروحي؛ سأكتب عن الرافعي الرجل الذي عاش على هذه الأرض سبعاً وخمسين سنة ثم طواه الموت؛ سأحول أن أجمع شتات حياة تفرقت أخباراً وأقاصيص ونوادر على لسان معاصريه أو غابت سراً في صدور أهله وخاصته؛ أما الرافعي الشاعر الكاتب الأديب الفيلسوف فسيجد الباحثون مما أقول عنه مادة لما يقولون فيه، ولعليّ أن أوفق في البلوغ إلى ما قصدت. وإنني لأتهم نفسي من كثرة ما أحب الرافعي أن أتحيف الأدب لو بدا لي أن أقول: هذا رأي. ولكني سأقول: هذا ما رأيت. فمن كانت له عين بصيرة تنفذ إلى ما وراء المرئيات وتربط الأسباب بالمسببات فسيبلغ جهده ويرى رأيه

ولقد كان الرافعي منذ شهرين إنسانا حياً بعواطفه وأمياله وحبه وبغضه وشهواته النفسية، ولكنه اليوم فصل من تاريخ العربية بألوانه وفنونه؛ فلا عليّ اليوم أن قلت كل ما أعرف عنه خيراً وشراً؛ فإنما أكتب للتاريخ، والتاريخ لا يحابي ولا يحتسب، وستمر بي في تاريخ الرافعي حوادث وأسماء سأصفها وأعرِّف عنها بقدر ما، كما سمعتها أو عرفت عنها؛ فأيُّما كاتبٍ أو أديب أو رجل أو امرأة أو ذي شأن أحس فيما أكتب شيئاً ناله بما يوجب المدح أو المذمة فلا يشكر ولا يتعتب؛ فإن التاريخ بعد أن يقع لا يمكن محوه بممحاة تلميذ. . . وما فات من تاريخ الإنسان فهو جزء أنفصل من حياة صاحبه، وإنما له ما هو آت، وما أحب أن يقول لي أحد صدقت أو كذبت؛ فما هذا الذي أكتب رأيا أراه، ولكنه رؤية رأيتها أو

<<  <  ج:
ص:  >  >>