للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

شأنهم في هجر كل جميل، سعياً وراء العيش والضرب في مناكب الأرض، لعنة الله على مناكبها.

تلك بقعة من الأرض أصح ما توصف به أنها ملك الطبيعة على قلة ما تملك الطبيعة من وادينا العظيم، فلا محراث يبجُّ بطنها، ولا فأس تقلب طبقاتها، ولا منجل يحصد ما نبت فيها، بل ولا إنسان يحييها تحية الحب والجمال. فهي أحق بأن تدعى (الشقة الحرام) كما يسمون البقعة التي تكون بين جيشين متحاربين. '

وكنت أمر على هذه البقعة المهجورة عجلان مسرع الخطو فأحييها تحية صامتة، وأتمنى لو أن مشاغل الزرع والإنتاج، والحرث والحصاد، والري والصرف، تمكنني أن أسعد بيوم واحد أقضيه في ظل هذه الصفصافة، وفوق بساطها السندسي الجميل. وكانت هذه الأمنية تعاودني صبيحة كل يوم وأنا رائح إلى الحقل، وفي كل أمسية وأنا غاد إلى داري. ولكن الأمل باق مادامت هذه البقعة بكراً لم يغشها إنسان ولم يفكر مخلوق في أن يسعد بجمالها قبلي. ودرجت على ذلك الأيام. فالصفصافة واقفة مشرفة بهامة الجبار على مجرى الغدير، وغدائرها الطويلة يمايلها النسيم على الماء، وخيال العراك الدائم بين الشجرة والغدير قائم في وجداني، وأمل المتعة بيوم أقضيه في ظل الشجرة المحبوبة متجدد كل يوم.

ولكن لا فلابد من يوم تغشى فيه الآمال الحلوة الخلابة سحائب من الكدر. فإن مخلوقاً غريباً احتل البقعة الحرام، واستظل بالصفصافة المقدسة. وقد خلع رداءه وجلس على حافة الغدير ينظر في مائه المنساب الدافق كأنه يستوحيه الأسرار، مثبتاً ناظريه في نقطة واحدة كأنما جاذبية الأرض قد تجمعت فيها، والماء ينساب متحدراً إلى غاياته، والصفصافة قائمة بظلها الوارف ما يعنيها في هذه الحياة من شيء، استظل بها فيلسوف من طبقة أفلاطون، أو أبله (ممسوخ) شوهت الطبيعة من خلقه كذلك الشبح الذي رأيته على ما وصفت صبيحة ذات يوم.

هو مخلوق هبط هذه البقعة من عالم سحري عجيب، ضئيل الجسم نحاسي اللون صغير العينين أفطس الأنف دقيق الشفتين على غير قياس، بارز الذقن إلى غاية غير مألوفة، مكتل الرأس طويل الوجه بارز الصدر مخشوف الظهر، طويل الذراعين قصير الرجلين. وقد اندكت رقبته بين كتفيه، فقصرت قامته على قصرها، وغشيت نحاسية وجهه بقعة من

<<  <  ج:
ص:  >  >>