للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

أنموذجا لكياننا ورسماً لما كنا ولما يجب أن يكون لما بقي لنا من صفاتنا الأصلية شيء نستدل به على حقيقتنا

إن سريرة الأمم المبتلاة بالانحطاط المرهقة بالمظالم تنكمش منسحبة من كتل الشعب لتتجلى من حين إلى حين لمعات أنوار في بيان عباقرته المتمردين. وإذا نحن استعرضنا فيلق المجاهدين من أول منبه للفاضلين تحت الأطلال إلى هذا المنتصب بيننا الآن كأروع رمز لشخصية الأمة الكامنة وراء تشردها وتقاطعها، لما رأينا واحداً من هؤلاء المجاهدين ينزع مثل هذه المنازع الضليلة التي يتوغل فيها المشككون الحائرون في هذه الأيام

إذا شئنا أن نتبين حقيقة موقفنا من أنفسنا ومن سوانا، وإذا صعب على البعض منا أن يتميز طريقه إلى قوميته ووطنيته فليتنصت إلى ما تصدوا به أجواء البلدان العربية كلها من أقوال المصلحين الذين عاشوا بآمال أمتهم وماتوا بعللها وأدوائها

أولئك المضطهدون هم أولى بإنارة سرائرنا ممن كانت حياتهم لهم لا للناس، فما شعروا بذل الأمة لأنهم استغلوه، وما أحسوا بأنهم غرباء في أوطانهم لأنهم أنكروا كيانها ومالئوا على حقها

ما يثير النعرات الدينية والإقليمية في هذه البلاد إلا الأنانيون الذين يرون في تبدد الأقوام تجارة رابحة لسعايتهم، أما الأرواح الجبارة التي أشبعت من مبادئ الشرق العليا حرية واستقلالاً ومجداً فأنها تمر بأجنحتها محلقة فوق كل عنصر ثقافته من وحي الشرق، وإلهامه وبيانه من لغة كفلت حياتها قوة لا تطاولها قوة. . .

لقد كان زمن أمكن فيه للأمة أن تبعث جسماً واحداً حين مزقت كفنها وشقت لحدها، ولكنها انتثرت بين أنامل الجامعين وقد عبثت بالرمة أهواء الحياة بعد أن جمعتها روعة الموت، فإذا بالميت الواحد هياكل عظام عديدة تهب من مرقدها منفرطة يتسلق كل منها ذروة لاستقبال أنوار الضحى وأوائل شعاع الشمس

تلك سانحة من الدهر ولت ولن تعود ما لم نستعدها بعشرات الأعوام جهود من يذكرون أن جميع هذه الهياكل القزمة، وقد بدأت تدب فيها الحياة، إنما هي هيكل جبار واحد جرعه سيف واحد وتسجى طوال الأجيال جثة واحدة في قبر واحد

لا يضع للأمة دستورها الحقيقي إلا من مثلوا سريرتها وثقافتها شاملة لروح المذاهب

<<  <  ج:
ص:  >  >>