للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

رسائل خاصة ولكنها على أعين القراء جميعاً وما ذاع السر ولا انكشف الضمير، وفي أكثر من مرة والرافعي يملي عليّ مقالاته - كان يستمهلني قليلاً ليُعَيِّث في درج مكتبه قليلاً فيخرج ورقة أو قصاصة يملي عليّ منها كلاماً، ثم يعود إلى إملائه من فكره، وأعرف ما يعنيه فأبتسم ويبتسم ثم نعود إلى ما كنا فيه؛ وتنشر المقالة، فلا نلبث أن نجد الرد في رسالة تكتبها (فلانة) فيتلقاها الرافعي في صحيفتها كما يفض العاشق رسالة جاءته في غلافها مع ساعي البريد من حبيب ناء. . .

هي طريقة لم يتفاهما عليها ولكنهما رضياها، وأحسب ذلك نوعاً من الكبرياء التي ربطتهما قلباً إلى قلب، والتي فرقت بينهما على وقدة الحب وحرقة الوجد والحنين. . .!

وكنت مع الرافعي مرة بالقاهرة في شتاء سنة ١٩٣٥، فقال لي: (مِلْ بنا إلى هذا الشارع!) ولم تكن لنا في ذلك الشارع حاجة ولكني أطعته، وانتهينا إلى مكان، فوقف الرافعي معتمداً على عصاه، ورفع رأسه إلى فوق وهو يقول: (إنها هنا، هذه دارها، من يدري، لعلها الآن خلف هذه النافذة. . .!)

قلت: (مَن؟) قال: (فلانة!)

قالت: (ولكن النوافذ مغلقة جميعاً ولا بصيص من نور؛ فأين تكون؟)

قال: (لعلها الآن في السيما. إذا كان الصباح فاغْدُ عليّ مبكراً لنزورها معاً، إن بي حنيناً إلى الماضي. . . ليتني. . . ولكن أترى من اللائق أن أزورها بعد كل ما كان؟)

قلت: (وما يمنع؟ أحسبها ستسرّ كثيراً بلقياك. . .!)

قال: (إذن في الصباح، ستكون معي، ولكن احذر، احذر أن تغلبك على قلبك. . . أو تسمح لخيالك أن يسبح وراء عينيك. . . إنها فاتنة!)

قلت: (لا، إنها عجوز، فما حاجتي بها. .؟) وضحكت مازحا

فزوى ما بين عينيه وهو يقول: (وَيْ! عجوز، إنها أوفر شباباً منك!)

قلت: (قد يكون لو وقفت بها السن منذ اثنتي عشرة سنة. . .!)

قال: (صدقت. . .! اثنتى عشرة سنة. . .!)

وسكتَ وسكتّ حتى أوصلته إلى الدار، فلما كان الصباح غدوت عليه فأذكرته موعده، فابتسم ابتسامة هادئة وهو يقول: يا بنيّ، إنها ليست هناك، إن (تلك) قد ذهبت منذ اثنتي

<<  <  ج:
ص:  >  >>