للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

جناحيه الرءومين على أَسِرَّتها الوردية الوثيرة من طلوع الفجر إلى متوع النهار؛ ثم يمس بريشهما الناعم خدود الأوانس النواعس فينتبهن؛ ويهبُّ الوالدان على زقزقتهن في غرف الزينة وطنُف القصر؛ ثم يجتمع بعد قليل مجلس الأسرة لينظر في مقترحات البطون على إدارة المطبخ. فهذه تقترح، وتلك تعترض، وهذا يطلب لوناً، وذاك يطلب آخر، والباشا يدير هذا الجدل الشهي إدارة موفقة، فيعدِّل أو يكمل أو يؤجل، حتى ينتهي النقاش بثبَت حافل بالمشهيات والمقليات والمشويات والمحشوات والفطائر لا تجد بعضه في مطعم كبير

يتغير هذا الثبَت كل يوم فيطول أو يقصر، ولكن لونين فيه لا ينالهما تغير ولا يمسهما نقص: لوناً من الأرانب مطبوخة في النبيذ يحبه الباشا، ولوناً من الشرائح الوردية مطعمة بفصوص من شحم الخنزير تحبه الآنسة الكبرى سين!

هاهو ذا الباشا البطين يتذبذب وئيداً بين المطبخ والمائدة كأنه رقاص الساعة؛ في يده مسبحته الكهرمان الصغيرة يهش بها على الطهاة والخدم، وشفتاه تختلجان من غير كلام، وعيناه تتحركان من غير نظر، حتى إذا دنت المغرب خفت حركته واحتد نشاطه فأقبل على المائدة ينسق الآنية، وينضد الأكواب، ويسكب أمام كل آكل الشراب الذي تعوده؛ فهنا قمر الدين، وهنا منقوع التين، وهنا الكينا، وهناك الفرمود، وهنالك إفيان، وأمامه هو شراب صحي فاخر من صيدلية (يني)؛ ثم يدبج الخوان المخملي بنوافل المائدة من السلطات والكوامخ، ويرتب الألوان مع النادل على أصول مقررة في الفن؛ ثم يسرح بعد ذلك بصره في السماط المكتظ فيرتد إليه ملآن بالرضا والعُجب؛ فيخرج إلى الردهة، ومن الردهة إلى الشرفة، فيلقي النظرة الأخيرة على الشمس الغاربة، ثم يعود فيرى الأسرة بجنسيها لم تفرغ بعد من إعداد الأهَب للسهرة الراقصة؛ فالحلل تنتقى، والحلي تُختار، والشعور ترجل وتموج، والأظفار تدرَّم وتصبغ، والحواجب تدقق وتخطط، والخطوات واللفتات والبسمات تتكرر أمام المَرايا لتراض وتُتقن. حتى إذا انطلق مدفع الإفطار من الراديو أهرعوا إلى المائدة إهراع جنود الإطفاء إلى السيارة؛ ثم يجلس الباشا بين بنيه ويضع المسبحة المعلومة مكان القدح المجهول، ثم يرفعه إلى فيه وهو يقول: (اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت، وبك آمنت، وعليك توكلت.) ثم يقبلون على هذه الآكال وهذه الأشربة إقبال الشره الفاره! فلو رأيتهم حسبتهم صاموا العام كله ليفطروا في رمضان!

<<  <  ج:
ص:  >  >>