للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ولكن في القلب مني زلزلة، وفي الأعصاب ناراً. . .

حتى إذا عاد أخوك ناجي الذي صحبك إلى الباخرة فخبرني أنك سرت (على أسم الله)، أحسست كأن قلبي قد هبط من هذا الزلزال كبناء هوى، وأن هذه النار قد تركت أعصابي رماداً منطفئاً فسقطت على كرسي. . . لا أدري فيم هذا الضعف، ولا أحبه في نفسي، ولكني أدري أني أتخيلك الآن وحيداً فريداً لا ترى حولك قريباً ولا صديقاً، تطل من شرفة الباخرة فلا ترى إلا السماء والماء، وقد أخذك دوار البحر فلم تجد معيناً ولا مسعفاً. وأتصورك في ذلك البلد الغريب الذي لا ترى فيه إلا وجوهاً تنكرها، وأنت الذي لم يفارق أهله قط، ولم يغب عن بيته ليلة، ولم يسافر وحده أبداً. . . فلذلك ما أحزن، وفي ذلك أفكر.

ولكنها - يا أخي - خطيئة تربيتنا الاتكالية. لو أن آباءنا عودونا، ولو أنا عوّدناك على الحياة الاستقلالية الصحيحة، وتركناك وأنت في الثانية عشر تذهب وحدك وتعود وحدك، وعودناك حمل التبعات وأيقظنا فيك شخصيتك ولم ندعها ضائعة في شخصياتنا، ودفعناك إلى استثمار مواهبك ولم نتركها معطلة، ولو فعلنا ذلك وأنت في الثانية عشرة لما خفت عليك السفر وحدك إلى باريز وأنت في طريق العشرين!

يا أخي.

إنك تمشي إلى بلد مسحور (والعوذ بالله)، الذاهب إليه لا يؤوب، إلا أن يؤوب مخلوقاً جديداً وإنساناً آخر غير الذي ذهب. . . يتبدل دماغه الذي في رأسه، وقلبه الذي في صدره، ولسانه الذي في فيه؛ وقد يتبدل أولاده الذين هم في ظهره إذا حملهم في بطن أنثى جاء بها من هناك!

إي والله يا أخي، هذه حال أكثر من رأينا وعرفنا (إلا من عصم ربك)، يذهبون أبناءنا وإخواننا وأحباءنا، ويعودون عداةً لنا، دعاةً لعدونا، جنداً لاستعمارنا. . . لا أعني استعمار البلاد، فهو هيّن لين، ثم إننا قد شفينا منه بحمد الله أو كدنا. . .

وإنما أعني استعمار الرؤوس بالعلم الزائف، والقلوب بالفنّ الداعر، والألسنة باللغة الأخرى، وما تبع ذلك من الارتستات والسينمات وتلك الطامات، من المخدرات والخمور، وهاتيك الشرور. . .

فانتبه لنفسك واستعن بالله، فإنك ستقدم على قوم لا يبالي أكثرهم العفاف، ولا يحفل

<<  <  ج:
ص:  >  >>