للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الخلافة أحد عشراً عاماً، وهو لاهٍ عن أمر وَليَه، وملك سَلبَه حتى سُلبه؛ لها بالغواني الكواعب والمغنيات الكواكب، فبرز له منافس قوي أوتي نبلاً وبعد همة ونباهة ذكر وحسن أحدوثة هو عضد الدولة، فدخل بغداد فاتحاً، وقبض على محمد بن بَقية وزير عز الدولة وصلبه على رأس الجسر، وهو المرثي بالقصيدة الخالدة لأبي الحسين الأنباري وأولها:

علو في الحياة وفي الممات ... لحق تلك إحدى المعجزات

في هذا العصر أهلّ أبو إسحاق ودرج، وشب واكتهل، وشاب وهرم، فلا بدع أن يناله ما ناله، ولكن البدع أن يخرج من هذا المعترك لا عليه ولا له، إذ معنى هذا أنه كان في الأدباء من النكرات، وفي رجال الدولة من الإمعات، وأن حياته لتنبئ عن غير هذا، فقد اعتقل في عصر معز الدولة عندما أناب عن الوزير المهلبي على ديوان الوزارة والرسائل لخروج الوزير إلى الشام مقاتلاً، فقتل بعمان، وقبض على عماله جميعاً وعلى رأسهم أبو إسحاق ومن قوله وهو معتقل:

يا أيها الرؤساء دعوة خادم ... أوفت رسائله على التعديد

أيجوز في حكم المروءة عندكم ... حبسي وطول تهددي ووعيدي؟

قلدت ديوان الرسائل فانظروا ... أعدوت في لفظي عن التسديد؟

أعليَّ رفع حسام ما أنشأته ... فأقيم فيه أدلتي وشهودي

ولما فك اعتقاله خدم عضد الدولة وهو بفارس، بالشعر والكتابة يفيض عليه المدح ويضفي الثناء حتى صار الصابي من جملة خاصته، وموضع ثقته ومحبته، ومحل رفده ورضيخته؛ وحتى همَّ بالنزوح معه إلى فارس بعد حلف عقد بينه وبين عز الدولة بختيار خوف سطوته، وخشية بطشه وفتكه؛ لتوثق علاقته بعضد الدولة، ولكنه - وهو من عرفنا رعاية لأهله، وحدباً على ولده - خاف أن يأخذ عز الدولة البريء بالمذنب، والمحسن بالمسيء، فينال أهله منه سوء لا يجد لرده دفعاً، ويصيبهم منه شر لا يعرف له درءا، فيكون كمن يفدي نفسه بولده، ويستخلص دمه بدماء ذوي قرابته، وما عرفنا فيه خيانة للجار الجنب، فكيف به يسلم بنيه وذويه، ويخرج مع البازي عليه سواد؟ عرف عضد الدولة ما يعتلج في نفسه، وما يضطرب به فكره، فجعل أمنه في سربه جزءاً من الحلف، وسلامته في ولده شرط من شروط العقد، فنص فيه على حراسته في نفسه وماله، وترك تتبعه في شيء من

<<  <  ج:
ص:  >  >>