للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

يحاسبني الناس، وأدوّن عيوبي قبل أن يدونها الكرام الكاتبون، وربما كنت الرجل الوحيد الذي يخفي حسناته - إن كانت له حسنات - حتى لا تزل قدمه في مز الق الرياء

أقول إني ألقيت محاضرة في محطة الإذاعة عن حِكم ابن عطاء الله، ولكني ما كدت أودع جمهور المستمعين حتى كان المذياع يجلجل:

يقولون ليلى في العراق مريضة ... فيا ليتني كنت الطبيب المداويا

وكانت لحظة طرب لن أنساها ما حييت، فاسم ليلى يشوقني، وبفضل ليلى رأيت العراق. وبدا لي أن أسأل عن صاحب الفضل في إمتاعي بهذا الصوت، فعرفت أنه الأستاذ يونس بحري صاحب جريدة العُقاب. ويونس بحري أديب شرب ماء النيل، وذاق لذة الأسمار في القاهرة، وعرف كيف تطيب الأصائل والعشيات في مصر الجديدة والزمالك والمعادي وحلوان، وتمرغ على الرمل المقدس: رمل الإسكندرية وبور سعيد ودمياط، وقد شاء له وفاؤه لمصر أن يؤنسني بهذا الصوت، لأنه يعرف أني طبيب ليلى، ولأنه يعرف أن السيدة نادرة حضرت نادي الصحافة منذ سنين فلم تر إلا أن تجلس بجانبي عند اخذ الصورة التاريخية ليصح لها أن تقول إنها رسمت وبجانبها قلب خفّاق

وليس من التزيد أن أقول إن محاضراتي في الإذاعة ينتظرها الناس في جميع أرجاء العراق؛ وكذلك كان إلقاء ذلك الصوت بعد محاضرتي شاهداً على حلاه الدعابة العراقية التي خلدها أبو الفرج الأصفهاني على وجه الزمان

جلست بعد المحاضرة أستمع هذا الصوت، والرفاق يضجون من حولي بالضحك وفاتهم أني صرت كالذي قال:

بكيت عينيَ اليسرى فلما زجرتها ... عن الحلم بعد الجهل أسبلتا معا

فقد كنت أعرف أن ليلى تسمع، وكنت أعرف أنها ستطرب لهذا الصوت الذي حبسه البغداديون عن أذنيها خمس سنين، وكنت أعرف أنها لو رأتني لقّبلتني. ولكن هل تقبّلني ليلى؟ ليت ثم ليت!

وخرجت من دار الإذاعة فعبرت دجلة من الكرخ إلى بغداد وأنا في ذهول، فحدثتني النفس بحلاوة الغرق في ذلك النهر الذي وعَى ما وعَى، وضيَّع ما ضيَّع، من أسرار القلوب. ثم تذكرت ديوني في القاهرة، ديوني للوجوه الصِّباح التي تعطّر بأنفاسها نسائم مصر الجديدة

<<  <  ج:
ص:  >  >>