للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

كان قوامها معوجاً وشكلها غير مغر. أفر من سواها وأهرب من مصادقة رجل وأنثني من ابتسامة أنثى. أهرب من بكاء الطفولة وأخشى من التقيد والآمال وملذات الوجود كما أخشى من اللعنة والعذاب؛ ومع ذلك كانت لي في هذه الصخرة العابسة وتحت هذه السماء الشاحبة متعات لا يهتدي إلى كنهها أهل الحضر الذين يجدون لذتهم في أريج العطر وعبيق الورد، فما هذه المتعات؟ إن لها من المتنوعات والأشكال المختلفة عشرات الألوف كما لها من أفياء السرور، ولكن ليس لها من الأسماء المتداولة إلا أسم واحد، فما هي هذه المتعات؟ هي (الوحدة)

مات والدي وأنا في الثامنة عشرة فانتقلت إلى كنف عمي وأزمعت الرحيل إلى لندن فوصلتها نحيفاً عبوساً مفتول الساعد قوي البنية؛ بيد أني في نظر من حولي كنت وحشاً في هيئتي وطباعي. كان لهم أن يضحكوا مني، ولكني أرهبتهم بصورتي؛ وكان لهم أن يغيروا من طبعي، ولكني أثرت فيهم وألقيت على بهجتهم رهبة فكانوا وجلين مني وإن لم أتكلم إلا نادراً ولم أجالسهم إلا مجلس الغريب الصامت المنقاد. ما من أحد منهم يستطيع معاشرتي ويكون مسروراً أو مرتاحاً. هذا ما شعرت به وقد أبغضهم إذ لم يمنحوني حبهم

مضت ثلاث سنين بلغت فيها سن الرشد، فطالبت بثروتي واحتقرت الحياة الاجتماعية، وذبت شوقاً مرة أخرى إلى الوحدة، فصممت على الرحيل إلى الأراضي النائية الخالية من السكان، تلك الأراضي التي لم يرجع منها زائر يتحدث عنها ممن طوحت بهم الأقدار في أحضانها التي لم يرجع منها زائر يتحدث عنها ممن طوحت بهم الأقدار في أحضانها

استأذنت عمي وزوجه وأولاده وبدأت الحج فاجتزت الرمال المحرقة، وقطعت الفيافي الشاسعة، حتى وصلت إلى غابات أفريقيا الكثيفة التي لم تطأها قدم، ولم يشوش صوت إنسان هذا الجلال المهيب الذي يخيم على وحدتها كما كان يخيم قبل الوجود على العوالم المضطربة. هناك حيث تنمو الفطرة الأزلية وتذبل بغير إزعاج أو تغيير يطرأ عليها من اضطراب ما يحيط بها من العوالم. هناك حيث تنبت البذور أشجاراً تعيش أعماراً لا تحصى ولا تعد، ثم تتساقط أوراقها ويسطو عليها البلى ويعتريها الفساد ويدركها الفناء. هناك حيث يخطو الزمن المتثاقل لم يشهد تقلباته الهائلة الصامتة إلا أسد شارد، أو أفعوان جسيم، يكبر مائة مرة تلك البوا التي يباهي السائحون برؤيتها. هناك تحت الظلال الوارفة

<<  <  ج:
ص:  >  >>