للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ولقيته بعد ذلك مرات، وكنت كلما رأيته مارا بمنزلنا دعوته لأعطيه شيئاً يأكله، أو يتبلغ به، وأعطيته مرة دريهمات كنت قد أختها من أمي، فما كدت أضعها في يده، حتى نظر إليها هازئاً، وردها إلى في امتعاض، وولى مدبراً. . . وفي المساء لقيته عند آل بورتانوفا، فتقدمت إليه قائلاً: (سنسناتوس! اغفر لي. . . و. . . اعف عني!) ولكنه هام على وجهه، واختفى في الغابة

وفي صباح اليوم التالي، وجدته ينتظرني قريباً من منزلي، فلما رآني تبسم ابتسامة محزونة، ومد إلي يده الواهية بباقة يانعة من أزهار المرغريت. . . وكانت عيناه دامعتين، وشفتاه مرتعشتين. . . مسكين! لك الله يا سنسناتوس!

ومرة أخرى، بينما كنا جالسين في طرف الطريق المعروش بالشجر، في أواخر شهر أغسطس، والشمس الغربة تختفي رويداً وراء الجبال، والأصداء المختلفة تتجاوب في جنبات السهل القار الهادئ بين لحظة وأخرى. . . وحواشي الأدغال الصنوبرية تبتعد وتبتعد حتى تتناهى في ظلام البحر، وقد أخذ القمر النحاسي يبزغ في هوادة وبطء خلال السحب العجيبة الرائعة. . . حينئذ. . . نظر سنسناتوس إلى القمر، وحدق فيه بصره. . . ثم أخذ يتمتم ويجمجم. . . ويقول: (أنظر. . . إنك تستطيع الآن أن تراه. . وليس في وسعك الآن أن تراه! أجل. . . قد يمكنك أن تراه الآن. . . وقد لا يمكنك قط أن تراه!

وظل برهةً يتأمله ثم عاد يقول:

(القمر!! إن له لعينين وأنفاً وفماً مثلنا نحن البشر!! ومن يدري فيم عساه يفكر. . . من يدري؟!)

ثم شرع يغني أغنية سَجْواء من كاستللامير. . . أغنية طويلة كثيرة الرفع والخفض، مما يتغنى به أهل تلك الهضاب في ليالي الخريف، في عقابيل الحصاد. . وبعد لحظات لمحنا في ظلام البعد مصباحي قاطرة مقبلة، كانا يتأججان في فحمة الغسق كما تتأجج عينا هَوْلة. . . وقد مر القطار وهو يهزم كالرعد فوق الجسر، ويرسل صفارته الهائلة، وينفث دخانه القاتم. . . وبعد لحظة غاب في الأفق، وساد الصمت، وعاد الهدوء إلى الكون

وهب سنسناتوس واقفاً فقال:

- اذهب. . . اذهب. . . انطلق بعيداً، أيها التين، بما أجج الشيطان في صدرك من نار

<<  <  ج:
ص:  >  >>