للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

أنت من المحاضرات؟ وما أدراك ما المحاضرات؟ محاضرات الجمعية الجغرافية، وأخرى في الجمعية الاقتصادية، وأخرى في قاعة يورت التذكارية، وأخرى عند جروبي، وأخرى في الكونتننتال، ولا بد لأسرة سقراط من أن تشهد هذه المحاضرات لتكون ظريفة متلطفة، مجاملة للمحاضرين والمحاضرات، ثم لتظهر أيضاً، أو لتظهر قبل كل شيء. والمحاضرون قوم قساة لا يحفلون بالناس ولا يحفلون بانفسهم، وانما يحفلون بالمحاضرات، فهم يحاضرون في غير رفق، وهم يحاضرون في غير حساب، وهم يتنافسون في المحاضرات وقيمتها وحظها من الجودة، بل في عدد المحاضرات وعدد المستمعين. والإعلان في الصحف؛ وقد تسوء الحال فيلقي محاضران محاضرتيهما في وقت واحد وفي مكانين مختلفين طبعاً، ويومئذ يضطر سقراط إلى أن يشهد إحداهما، وتضطر امرأته إلى أن تشهد الأخرى، فلا بد من ظهور أسرة سقراط في المحاضرتين جميعاً فإذا انتهى كل من المحاضرين تقدم اليه نصف الأسرة فهنأه وحياه واعتذر له عن النصف الأخر لأنه مشغول بمحاضرة فلان. يا لهذا الفصل: فصل الشتاء! انه يشغل الوقت، ويصرف الناس حتى عن الحياة، وقد تعطف الظروف على سقراط وتؤئره الأيام بخير ما عندها من اللذات والمتاع. وإذا هو مضطر إلى أن يستمتع رغم أنفه بتناول الشاي عند فلان، ثم بالاستماع لمحاضرة يلقيها فلان في الساعة السادسة، وأخرى يلقيها فلان في الساعة السابعة، ثم يخطف عشاءه خطفاً، ويلقي ملابس النهار ويتخذ ملابس الليل ليسرع إلى الأوبرا، ويل لسقراط إن لم يكن من أصحاب السيارات! وويل للسيارة وسائقها ان كانت لسقراط سيارة، من هذه الأيام العذاب الكذاب أيام الشتاء، ثم حدثني بعد ذلك كيف يستطيع سقراط أن يفرغ لفلسفته ومعرفة نفسه وحوار تلاميذه إذا كان الصباح، وأين له القوة التي تمكنه من أن يفلسف أو يفتش عن نفسه أو يحاور أصدقاءه بعد هذا الجهد العنيف الذي أنفقه أو الذي احتمله منذ أقبل المساء إلى أن انقضى الليل أو كاد ينقضي، ومع ذلك فلا بد لسقراط من أن يعنى بفلسفته، ويبحث عن نفسه، ويجاور أصدقاءه، لأنه بذلك يعيش، ولذلك يعيش، زمن ذلك يعيش؟ أرأيت أن سقراط لم تظلمه الأيام حين جعلت حياته في القرن الخامس قبل المسيح في ذلك الوقت الذي لم تنشأ فيه الصالونات، ولم تكثر فيه المحاضرات، ولم تتعدد فيه ملاعب التمثيل وقاعات الغناء، ولم تظهر فيه دور السينما، لقد كان سقراط سعيداً حقاً، كان

<<  <  ج:
ص:  >  >>