للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

- وقت تجلٍّ، يجيد فيه ويغزر ويسمو فيه ويصفو، ويعجب كيف أجاد وكيف غزر، ثم هو يحاول بعد مراراً أن يخلق مثل هذا التجلي، فيفشل ثم يفشل، ويحار في تعليل ذلك، وتعليلها هو ما قاله علماء الكلام (ولم تكن نبوة مكتسبة) هو في العلم مالك وقته يصرفه كما يشاء وهو في الأدب ينتظر الإلهام.

وقالوا إن رقي الأمة في الأدب لا يرتبط بدرجة ثقافتها، ولا برقيها العقلي، ولا بأي سبب من الأسباب، فالأمة المصرية قديما رقيت في فنون النحت والنقش والبناء رقياً بديعاً جعلها من أساتذة العالم في هذا الباب، وخلّفت على مر الأزمان ثروة لا تقوّم، ولا تزال قبلة الفنانين تستخرج إعجابهم وتلهم أذواقهم، والمصريون الآن ليسوا أساتذة في الفن، حتى ولا تلامذة، مع أن أحداً لا يستطيع أن يقول أن المصريين القدماء كانوا أرقى منا عقلاً وأعلى ثقافة. وكذلك يشكو كثير من الأوروبيين من أن الفن (ما عدا الموسيقى) أخذ يتدهور من القرن السادس عشر مع أن انواع العلوم في رقي مستمر. وعقليات الأمم في تقدم دائم، ولو كان الأمر بالعلل والأسباب المنطقية لوجب أن يكون المصريون اليوم أعلى فناً وأكثر نبوغاً، ولكان الفن الأوربي الآن أسمى وأتم منه في القرون الوسطى، فأما وقد عجز المنطق عن تقديم مقدمات ونتائج صحيحة فليس إلا الإلهام، وليس للأمة إلا أن تنتظر ما يأتي به القدر.

هكذا قالوا، أو حالوا أن يقولوا، وبهذا احتجوا، أو حاولوا أن يحتجوا ولكن هل هذا صحيح؟ إن في هذا الرأي غلواً مفرطاً، انه يخرج الأدب عن دائرة الإرادة ويجعله مجرد انتظار للوحي والإلهام، ومن الحق أن للأدب خطة تنتهج كمنهج العلم، وأن من نعده للأدب يجب أن تثقفه ثقافة خاصة كالذي نعده للعلم، ولكن من الحق أيضاً إننا لا نخلق الأديب ببرنامجنا، بل لابد أن تكون قد هيأته الطبيعة ومنحته استعدادات خاصة وكفايات ممتازة، وتهيؤا لقبول الإلهام، ولكنه في كل ذلك كالعاِلم، فبرنامج العلم لا يخلق نابغة في العلم انما يعده، والعالم لابد أن يكون مهيأ للإلهام كالأديب، واكثر المخترعات والمستكشفات في العالم كانت نتيجة الهام اكثر منها نتيجة لمقدمات منطقية وتجارب عملية، وانما التجارب تهيئ للإلهام وتحقق ما يأتي به، وتبين صحيحه من فاسدة وتسمى هذه الإلهامات فروضاً.

ويظهر أن اتجاه هؤلاء الباحثين هذا الاتجاه سببه عقيدة سادت بين علماء الفن وعلماء

<<  <  ج:
ص:  >  >>