للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

هكذا ايضاً قالوا أو يصح أن يقولوا. وهذه الآراء وإن كان فيها شية من الحق ليست حقاً كلها، وليست حقاً في أساسها، وقد بذل بعض العلماء المحدثين مجهوداً حميداً في بيان ما فيها من حق وباطل وحاولوا أن يفلسفوا الذوق، ويفلسفوا الجمال ووضعوا للذوق والجمال علماً وعدوه فرعاً من فروع الفلسفة، وحاربوا الفكرة السائدة: (إن الذوق لا يعلل)، ووضعوا قواعد لتعليله نجحوا فيها أحياناً وفشلوا أحياناً، ولا يزال مجال البحث أمامهم فسيحاً، وكان لهذا الاتجاه الجديد في عالم الجمال أثر كبير في خلق نظريات في الأدب، ووضع أسس جديدة للبلاغة والنقد الأدبي مما ليس هذا موضعه.

والذي أميل اليه أن الفن نتيجة الذوق لا محالة، وأن الذوق يمكن تربيته وترقيته، فالطفل إذا لفتَ نظره إلى الأزهار وجمالها تكوّن فيه الميل إلى حبها والاستمتاع بها، فإذا كان يعدُ أديباً اتصلت حياته الأدبية بها، وظهر في نتاجه الفني هذا الحب وهذا التقدير.

والذوق العام للأمة في قوته وانحطاطه، ليس يظهر فجأة ولا نتيجة المصادفة البحتة، انما هو نتيجة لكل ما يحيط بالأمة من ظروف وأحداث، هو نتيجة النظم السياسية، والحياة الاقتصادية والاجتماعية، والثقافة العقلية وغير ذلك، وإن شئت فقل أن ذوق الأمة هو تعبيرها عما تُقوِّم، فالأمة إذا قَوّمت المناظر الطبيعية تذوقتها، وإذا قومت جمال الأزهار تذوقته، وإذا لم تقوم نظام المجتمعات لم تتذوقه ولم يجرح ذوقها تهويش على محاضر أو مغن أو ممثل والفنان ليس إلا معبراً عن ذوق الأمة، والأديب ليس إلا الموقع للأصوات التي تستلذها الأمة.

ومن أهم الأسباب ضعف الأدب العربي مسألتان تتصلان بهذه الحقيقة: الأولى أن الأدب العربي لا يتصل بالذوق العام للأمة اتصالاً وثيقاً، لأنه يصاغ بلغة غير لغة الشعوب، ولا يتصل إلا بذوق خاص وهو ذوق محترفي الأدب، ومن تكون ذوقهم تكّوناً كلاسيكياً , ولا أمل في نجاحه إلا أن نعمل بأي شكل كان على ان نصل الأدب أو أكثره بالذوق العام، والثانية تتصل بالأولى. وهي أن الآداب في أكثر الأمم كانت أرستقراطية النزعة يوم كانت القوة في يد الأرستقراطيين، فلما انتشرت الديمقراطية تبعها الأدب، فأصبح ديمقراطي الموضوع، ديمقراطي النزعة، أما الأدب العربي فقد أصبح أرستقراطيا منذ العهد الأموي، وأصبح أهم انواع الأدب إنما ينشأ حول قصور الأمراء والأغنياء، وفي الموضوعات التي

<<  <  ج:
ص:  >  >>