للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الفكر، وكبار الصوفيين، وإذ كانت الفكرة جديدة، وكل جديد (في الغالب الأعم) منظور اليه بنظرات الخوف والحذر، إذ كانت الفكرة كذلك لقى أصحابها الشيء الكثير من الإيذاء فقتل البعض، ومثّل به، وربما حرقت جثث البعض وهرب البعض إما من وجوه أولئك المتفقهين، وإما من النظرية ذاتها، وعمد البعض إلى الرمز في الكتابة يعبر به عما يريد في عبارة مشكلة مطاطة تلين مع التأويل والتخريج، فخرجت في تأليفهم كثير من المعميات، يقول بعضهم: جلست عن ابن سبعين من وجه النهار إلى آخره، فجعل يتكلم بكلام تعقل مفرداته، ولا تعقل مركباته. . .

وغلبت هذه الدندنة في كتبهم الكبيرة، فأنت إذا قرأت الفتوحات لابن عربي أو الفصوص مشيت في سهل وحزن، ومرت بك مأمن ومجاهل، ومثل هذين فيما قلنا كثير من كتب رجالات التصوف القدامى.

وتبدو هذه الظاهرة قوية في أشعارهم، لأن النثر يبنى على البسط والإيضاح الذي لا يقبله كله الشعر، ولهذا عمدوا إلى النظم فألقوا فيه بآرائهم ملفوفة رمزية لتقبل التأويل كلما حزبهم من المتفقهة حازب.

لم نستطع ان نتعرف بالضبط متى نشأت (وحدة الوجود) إطلاقا، ولا أين، أما الكيفية فمنطق الصوفيين فيها أبلج. وقديماً كان لوحدة الوجود أثر كبير في الأديان القديمة (غالبها) فمست خرافات الهند القديمة أطرافها مساً رفيقا وشديدا على اختلاف الأساطير بعدا عنها وقربا منها، وذهب بعض اليونانيين القدماء إلى أن اصل العالم يجب أن يكون مادة لا وصف لها، ولا تقبل الفناء، وأشرنا إلى قولهم أن غير المتناهي يستغرق كل موجود.

وتلك هي بعينها فكرة ابن سبعين ومنطقه القائل: أن واجب الوجود كلي وممكنة جزئي، ولا وجود للجزئي إلا في كلي، كما لا يتحقق وجود الكلي إلا بجزئياته.

ولابن عربي في الباب تسع وعشرين ومائة في ترك المراقبة؛

لا تراقب فليس في الكون إلا ... واحد العين، فهو عين الوجود

ويسمى في حالة بالَه ... ويكنى في حالة بالبعيد.

وشعر الصوفية طافح بالوحدة الوجودية منغمس فيها في تلميح أو تصريح، ومازال القوم يرددون قول الغزالي، أو ما قيل انه قاله (ليس في الإمكان أبدع مما كان) وقالوا بعيداً عن

<<  <  ج:
ص:  >  >>