للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فنقول: إننا إنما نخلق الفلسفات ونبتدع الديانات لنخفي في طياتها رغباتنا الخفية.

ابحث في كل نواحي النشاط الإنساني، تجد دوافعه مشتقة من الإرادة اللاشعورية، لا من العقل والشعور. فهذا التنافس والتناحر على أسباب العيش من طعام ولذات، إنما ينبع من (إرادة الحياة) التي يبطنها كل كائن في طوايا نفسه، حتى شخصية الفرد لا تتكون من أعماله العقلية ولكن من نزواته اللاشعورية التي يندفع اليها بإرادته الخفية؛ ومن هنا كانت الديانات على اختلافها تعد الجنة للإرادة الطاهرة (أي القلوب) ولكنها لا تعترف بالعقول الكبيرة ولا تحسب لها في جناتها حساباً.

وليست سيطرة الإرادة مقصورة على الحياة الفكرية، بل تتعداها إلى الدائرة الفسيولوجية. فإرادة الحياة خلقت أوعية يجري فيها الدم، وإرادة المعرفة خلقت مخاً يصل إلى شتى المعارف، وإرادة القبض على الأشياء خلقت الأيدي، وهكذا نشأ كل عضو بعد نشوء إرادة وظيفته، فحركات الجسم هي في الواقع إرادات مجسمة بل الجسم كله إرادة متبلورة.

إذن فالارادة، لا العقل، هي كنه الإنسان بل كنه الكائنات الحية جميعاً، هذه الإرادة التي نتحدث عنها هي رادة الحياة، وليس الحياة أياً كان لونها، ولكن (إرادة الحياة الكاملة).

وليست هذه الإرادة مقسمة بين الأفراد، أعني ليس لكل فرد إرادته المستقلة تعبث به كيف شاءت، ولكنها إرادة واحدة تتناول الحياة بأسرها كتلة واحدة وشيئاً لا يقبل التجزئة، فالفرد ليس حقيقة في ذاته ولكنه ظاهرة لحقيقة، فهو جزء من كل متماسك، ومحتوم عليه بحكم إرادته أن يسير في طريق مرسوم حتى لا يضطرب نظام ذلك الكل المتحد. ومن هنا نشأت رغبة التناسل مثلا، فهي ليست رغبة فردية، ولكنها رغبة الحياة بأسرها وهي وحدها التي تسخر الأفراد لصالحها بل أن هؤلاء الأفراد الصورة المحسة التي تظهر فيها إرادة الحياة.

يقول سبينوزا: لو أن حجراً ألقي في الهواء وكان لديه شعور وإدراك لظن أنه إنما يتحرك بمحض إرادته الحرة وأنه هو الذي يختار الزمان والمكان اللذين يقع فيهما. وما أشبه الإنسان في حياته بذلك الحجر الملقى: كلاهما تدفعه قوة خارجية وكلاهما يتوهم أنه حر لا سلطان على إرادته.

نعم، إرادة الحياة في عمومها حرة التصرف لأنه ليس هناك إرادة تحد تصرفها ولكن كل

<<  <  ج:
ص:  >  >>