للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

بين العقاد ومخلوف هو السبب المباشر الذي ألهب حمية الرافعي فنزل إلى الميدان مستكملاً أهبته مزوداً بسلاحه، غير مكترث بما قد يناله من غضب الآلاف من القراء الذين يقدسون العقاد الكاتب تقديساً اعمي فلا يفرقون بين العقاد السياسي والعقاد الأديب. . .!

وأرسل الرافعي يستدعيني إليه ذات مساء، فرحت إليه بعد العشاء بقليل؛ فإذا هو جالس إلى مكتبه، وعلى مقربة منه (وحي الأربعين) وإن عليه لثوباً أحمر في لون عرف الديك، وفى عينيه فتور وضعف ينبئ عن السهر والجهد العميق؛ فإنه ليبدو في مجلسه ذلك كأنه عائد لساعته من معركة حمراء. . .!

قال: (لقد فرغت من قراءة الديوان منذ قليل، وإن لي فيه لرأياً. فهل تساهرني في الليلة حتى أملي عليك ما أعددت في نقده؟)

كانت هذه أول مرة يملى الرافعي على فيها من مقالاته؛ فكانت فرصةً سعيدة لي، اشهد فيها الرافعي حين يلقَّي الوحي، وأصحبه في سبحاته الفكرية يقتنص شوارد الفكر وأوابد المعاني. وكانت فرصة سعيدة له: أن وجد يداً غير يده تحمل له القلم حين يكتب ليفرغ لنفسه، ويخلو بفكره؛ وما تعوَّد قبلها أن يكتب وفى مجلسه إنسان. وإن أثقل شيء عليه أن يكتب بيده، ولكن اقل من ذلك عليه أن يعرف أن عيناً تلاحظه وهو يكتب، فما زال يكتب لنفسه منذ بدأ متبرماً بهذه المهمة، ضيق الصدر بما يبذل في الكتابة من جهد. وإن خطه لأردأ خط قرأت في العربية. . . حتى اصطفاني لهذا الواجب، فلزمته ثلاث سنين لا يهم بكتابة مقال إلا دعاني ليمليه عليّ، حتى انتقلت من طنطا فعاد إلى ما كان من عاداته: يملي على نفسه ويكتب لنفسه، ولم يسترح إلى كاتب بعدي يشركه في جلوة الوحي وخلوة الكتابة!

وجلس فأملى عليّ مقاله في نقد (وحي الأربعين)، من قصاصات في يده لا تزيد إحداها على قدر الكف، فما فرغ من الإملاء حتى أذن الفجر، وحتى كانت هذه القصاصات بضعاً وعشرين صفحة كبيرة، تشغل بضعة عشر نهراً من جريدة البلاغ. وكانت ليلة تحملت فيها من الجهد والمشقة ما لم أتحمل في ليلة غيرها فقمت منهوك القوة عيّان، وقام الرافعي في مثل نشاط الشاب في عنفوانه، كأنما كان عليه عبء فرماه عن كتفيه. . .!

وكان بين البلاغ والعقاد خصام، وكان بينه وبين الرافعي مودة، فما كادت تصل إليه مقالة

<<  <  ج:
ص:  >  >>