للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

محق. فصحيح أن الحماقة والضعف البشري جرفا الإنسانية التعيسة في تيار الجحود والإثم فأهلكاها وقضيا عليها. وها نحن أولاء لا نريم من هذا المكان كأن لا عمل لنا ولا واجب علينا. لماذا لا أذهب إليهم فاذكرهم بالمسيح الذي نسوه؟).

نالت كلمات رجل المدينة من نفس رئيس الدير، ففي اليوم التالي أمسك بعكازه وودع إخوانه، وركب الطريق إلى المدينة، فأمسى الرهبان لا ينعمون بموسيقاه ولا بحلو حديثه ولا برائع قريضه.

ترقبوه شهراً ثم شهرين فما عاد، وأخيرا في نهاية الشهر الثالث سمعوا نقر عصاه المألوف فخف الرهبان لملاقاته وأمطروه بالأسئلة، ولكنه بدلا من مشاركتهم في حبورهم بكى بكاء مراً وما نبس ببنت شفة. رأى الرهبان أنه أصبح نحيلاً وأن أعراض الكبر قد بدت على ملامح وجهه.

فما تمالك الرهبان وقد رأوا منه ذلك أن أجهشوا بالبكاء وسألوه عما يبكيه، فما أجابهم بكلمة وغادرهم موصدا عليه بابه ومكث في صومعته. لبث فيها خمسة أيام ما شرب فيها شرابا ولا طعم طعاما ولا عزف على الأرغن. ولما طرق الرهبان عليه بابه وألحوا عليه في الخروج ليشاركوه في أساه كان جوابه الصمت العميق.

خرج من معتكفه أخيرا وجمع حوله الرهبان وأخذ يقص عليهم ما حدث له خلال الشهور الثلاثة التي خلت والدمع ينضح وجهه والألم يأكل قلبه، ثم هدأت نفسه وتهللت أساريره حينما أخذ يصف لهم رحلته من الدير إلى المدينة. غنى الطير وخر الجدول على جوانب الطريق، وجاش صدره بالأماني الحلوة والآمال المعسولة. شعر بانه جندي يتهيأ لاقتحام الموقعة والوصول إلى النصر المحقق. سار حالما يقرض القصيد ويصوغ النشيد، وسرعان ما وجد نفسه في نهاية الرحلة. على أن عيونه أومضت باللهب، ونفسه جاشت بالغضب، وصوته ارتعش عندما بدأ يحدثهم عن المدينة والإنسانية. ما كان رأى ولا تخيل قبل اليوم كل ما رآه وأحصاه في قلب المدينة. رأى وفهم لأول مرة في حياته سلطان إبليس وسيادة الجور وضعف القلب الإنساني الخاوي. هنا خمسون أو ستون رجلا جيوبهم مترعة بالمال يقصفون ويشربون النبيذ دون حد. أخذوا وقد تملكتهم نشوة الراح يرفعون عقائرهم بالغناء الساقط، وينوهون في شجاعة بأشياء جارحة لا يجرؤ إنسان يخاف الله جل سلطانه أن

<<  <  ج:
ص:  >  >>