للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ولقد شكوت إلى الأستاذ طه حسين إني بت مضطرا، قبل ان ابدي رأياً في كتابه الجديد، إلى مطالعة هذه الأسفار القديمة وإني ساعياً بكل هذه الأسانيد الطويلة العريضة، وهذه الأخبار المتداخل بعضها في بعض. وما أظن دراستي القاصرة ستساعدني على تذوقها والاستمتاع بها.

فقال الأستاذ: إن ألذ شيء عندي في كل ما أطالع واقرأ هو هذه الأسانيد التي تنفر منها. وليس شيء احب إلي من أن أنصت إلى الخبر أو الحديث وأتتبعه من أول الرواية إلى أخرها.

فعجبت أولاً كيف يتسنى لإنسان ذي ذوق سليم أن تحلو له قراءة العنعنات التي لا تكاد تنتهي. لكني لم البث أن أفهمت أن المرء متى عرف الرواة جميعا وعلم من أمر كل منهم شيئاً، فان هذه الأسماء تصبح مجرد أسماء، بل أشخاصاً تعرفهم يتحدثون اليك، وتعلم أيهم تستطيع أن تركن إلى كلامه وروايته.

وبعد ان شرح لي الأستاذ هذا الأمر الذي أشكل علي، تبينت، أو على الأقل ثبت لدي ما كنت أتوهمه من أمره وما أكاد أثبته، ان ثقافة الدكتور طه حسين الحقيقية هي ثقافة أزهرية متينة قوية الأسس، ضخمة الدعائم، وطيدة الأركان. وان ليست ثقافته الغربية، التي نسمع عنها الشيء الكثير، إلا رواء وطلاء أن بهر العين منظره فانه لا يذهب إلى غور بعيد. وقديما قال نابليون في الروس: انك إذا حككت الروسي بدا لك التتري، وفي وسعنا أيضا ان نقول إذا حككت طه حسين، برفق، بدا لك الأزهري القح الصميم بكل ما تحمله هذه الكلمة من فضل وعلم.

وقد استطاع طه حسين (على غير عمد) ان يصرف الناس عن حقيقة أمره بحديثه عن اليونان والرومان والسكسون واللاتين، واثارته هذه الزوابع التي برع في إثارتها أثناء كلامه عن اشخاص مثل ديكارت وليبنتز وبودلير، وعن التجديد، وما أدراك ما التجديد. فلعل أصدقاء طه حسين ان يحمدوا للشخص الضعيف كاتب هذه السطور أن كشف لهم أمر صديقهم ما خفي طوال هذه السنين.

وبعد، فان بين يدي كتاباً ليس موضوعه جديداً على قراء هذه الصحيفة. فان الفصول الثلاثة الأولى قد ولدت مع الرسالة، وظهرت في إعدادها الأولى، واعرف ان الكثير من

<<  <  ج:
ص:  >  >>