للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تتهيأ فيهما النعمة، ويفعل ما ينبغي أن يفعل، ويسأل وهو لا ينبغي أن يسأل

لماذا؟ أتسأل لماذا؟ إن هذا لهو العجب الذي يحوجنا إلى استفسار، وليس هو هيام البدوي بالصحراء حين تكون على ما نهواه نحن ويهواه كل إنسان

عرفت الصحراء منذ الطفولة؛ واحسبني ورثت عرفانها في دماء الآباء والجدود؛ وقاربت حدودها وشارفت أعاجيبها وهي مما يظهر على حافتها في بعض الأحايين

فعند ضاحية أسوان خيام يسكنها بعض البجاة، وكان على الجانب الشرقي منها بناء مسوَّر في وسطه فضاء فسيح، وفي وسط الفضاء خيمة يأوي إليها صاحبها ولا يأوي إلى ما بني من حجارة وحجرات، ونحن نحسب أن الإنسان لا يأوي إلى الخيمة إلا لقلة البناء. فها هو ذا رجل يؤثر الخيمة والبناء في وسعه وعلى مقربة منه: هنا بدأت في العجب في أمر الصحراء ونقائض أبناء الصحراء. ثم قرأت أن للصحراء سحراً فحسبت أنني وقعت على السبب وأبطلت العجب، ولم أدر يومئذ أن كلمة (السحر) إنما هي تلخيص الأعاجيب التي لا نفقه أسبابها، وليست هي بتفسيرها ولا بالدليل على إدراكها وتعليلها، ومضيت من ثم في سؤال الصحراء عن مفتاح سرها، وفي علاج الباب الذي أنكره ابن من أبناء الصحراء حيث قال:

ما إن سمعت ولا أراني سامعاً ... أبداً بصحراء عليها باب!

وكل صحراء عليها باب، وعلى بابها مفتاح، وهذا هو المفتاح الذي بحثت عنه فاهتديت بعض الهداية، ونفذت إلى بعض الإغلاق

كل صحراء عاش فيها الرعاة فإنما كان اجدابها على التدريج بعد أزمان طوال تبدلت فيها طبيعة الأرض والجو، فندرة الأمطار بعد كثرة، ويبست المروج بعد نضرة، وقلت الأرزاق بعد وفرة، ثم أجدبت بعد ذلك إلا من قليل زرع هنا وقليل ماء هناك، وأهلها مع هذا قادرون على تعويض ما فقدوه بالإغارة على جيرانهم من سكان الحواضر وأصحاب الأنهار والمزارع، حيث تأصلت عادة المعيشة، وتمكنت طبيعة الترحل، واستقامت البنية على هذه العادات والطبائع فجاءت ضرورة الانتقال بعد استقامة الطبيعة على هذه الأحوال، وفعل سحر الوراثة فعله غير مفطون إليه ولا مقدور على منعه، فكان منه ذلك القيد الذي يربط صاحبه في مكانه برضاه وهواه، ويلوح للناظرين كأنما يربطه هنالك على

<<  <  ج:
ص:  >  >>