للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

في الصدور، ويكبرون في الزمن، حتى تنسب إليهم الخوارق، وتخلع عليهم المحامد، فتسير بذكرهم الرواة، وتتحدث بأفعالهم القصاص، وتنتقل شهرتهم من فم إلى فم ومن جيل إلى جيل، وهي في خلال ذلك تتسع وتفيض حتى تصبح سيرهم لدى الشعب حديثاً وطنياً يجب أن ينشر، وتراثاً قومياً يحرصعلى أن يزيد، فيقيض الله لهذه السير المتجمعة على طول الدهور شاعراً سمح القريحة فينظمها بأسلوب شائق ونمط جميل، كذلك دارت الإلياذة الإغريقية على حروب اليونان لأهل طروادة. ومهابهاراته الهندية على الحرب التي نشبت بين نيدهو وبني كرو، والشاهنامة الفارسية على تاريخ الأكاسرة ووصف الحرب التي اشتعلت بين أهل إيران وأهل طوران، وقد كانت تلك الحروب مفخرة الفرس الأولين ورمزاُ للخلاف الدائم بين ألهي الخير والشر (وكذلك دارت أغاني رولان الفرنسية على حروب الفرنج لعرب الأندلس. وهذا هو الشعر القصصي أو الملاحم الذي خلا منه الشعر العربي لأسباب لا يتصل ذكرها بموضوع اليوم) على أن عامل الحروب قد أثر في النثر العربي والشعر العامي وأن لم يؤثر في الشعر الفصيح. فأن نشوب الحروب الصليبية قد اقتضى تدوين بعض القصص الحماسية كقصة عنترة وسيرة بني هلال والأميرة ذات الهمة إثارة للنفوس وتحميساً للشعب وتفريجاً من الهم.

ومنها (طبيعة العمران وتوزع الثروة وما يتصل من ذلك من حال الاجتماع) فأن تقدم الحضارة ورخاء العيش ونماء الثروة تؤثر في الذوق، وتزيد في الصور؛ وتساعد على نشر العلوم، وتنوع في معاني الشعر وأساليب الكتابة. وشاهد ذلك أن مدن الحجاز حينما زخرت بالمال ونعمت بالفراغ منذ خلافة عثمان إلى أواخر القرن الأول للهجرة تدفق أهلها في اللهو وعكفوا على الغناء وألقوا أزمتهم في يد الصبابة وانقطع شعراؤها إلى الغزل فافتنوا فيه وتصرفوا في معانيه وأغفلوا سائر أنواع الشعر الأخرى كعمر بن أبي ربيعة وجميل بن معمر وكثير عزة. وشاهد آخر على تأثير الأحوال الاجتماعية في الفنون الأدبية هو شيوع البذاء والفحش في شعر بعض البغداديين على عهد الرشيد والمأمون.

فقد حدث شئ من ذلك في الجاهلية وفي العصر الأموي حين كان الفرزدق وجرير ومن لف لفهما يتجاوبون بالفحش ويتهاجون بالبذاء، إلا أن ذلك لم يكن مقصوداً لذاته، وإنما كان يقال هجاء للعدو وسباباً للخصم. أما الفحش في شعر أبي نؤاس ومطيع بن أياس وحسين

<<  <  ج:
ص:  >  >>