للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

يعرفه المطلع البصير من مجتمع يعيش فيه فعلاً، ويدرج بين أهله وعشيرته

وما تستطيع غير العبقرية أن تنفخ الحياة في العظام النخرة بعد أن تكسوها لحماً وتملؤها دماً، وتنفث فيها من الخوالج والخواطر ما يفهمها حساً وفكراً. وما تستطيع غير العبقرية أن تنفخ في ميت العصور روحاً، وتبعث هوامد السنين حية تتحرك وتمر مرها في الفلك ودورات النجوم من جديد

ولكن هذه القدرة الخالقة، لم تقف عند هذا الحد، ولم يكن ابن الرومي ولا حياته، ولا فنونه ومزاياه، هي التي أفادت من هذه القدرة حياة. . بل لم يكن هذا إلا أقل ما في الكتاب من مزاياه

وإنما الميزة الكبرى - في نظرنا - هي البيان العجيب للفن والحياة والبائع الإنسانية، وشرح العبقرية الفنية وحدود النظر للأدب نظرة صحيحة، وتصحيح كثير من الأغلاط الشائعة في ذلك قديماً وحديثاً. بحيث تصلح فصوله أن تكون ديواناً للنقد البصير الحصيف في الأدب العربي، ومقوماً للطبائع والأذهان والافهام، لمن يجد في نفسه استعداداً للإفادة

اسمعه يتحدث عن (عبادة الحياة) في أدب ابن الرومي: (حب الحياة خليقة نادرة، وإن ظن أنها اعم شيء بين الناس وعامة الأحياء، فليس الحب - سواء حب حياة، أو حب شيء من أشيائها - سهلاً رخيصاً يطمع فيه كل من يريد. فمن الناس من يحب الحياة وكأنه مسوق إلى حبها، ومنهم من يحبها كأنه مأجور على عمله، ومنهم من يحبها كأنما يحب شيئاً غريباً عنه؛ ومنهم من يحبها كما (يحب) الحيوان الأعجم ما هو فيه؛ ومنهم من يحبها حب العاشق الذي يختار معشوقه، أو يستوي عنده الحب على القسر والحب على المشيئة، لأنه يريد ما يقسر عليه ويأبى أن يفرض للفراق وجوداً، أو يتوقع لهواه تغيرا، فهو سعيد بأن يحب، وان يسمح له بأن يحب؛ وهو يحب الحياة لأنه حي لا موت فيه، ولا عمل لكل حاسة في نفسه إلا أن تحس وتحيا، وتستجد إحساساً وحياة، ولا تشبع من الإحساس والحياة. وهكذا كان ابن الرومي يعبد الحياة عبادة لا يبتغي عليها أجراً غير ما يبتغيه خلص العابدين. فكان حياً كله لا مكان فيه للموت إلا الخوف منه والتفكير فيه)

وإنك لتقرأ هذا فتعجب لانتباه العقاد لكل ألوان (حب الحياة) وفهمه لأصحاب هذه الألوان وطبائعهم، وتعرف أن ذلك وليد إدمان اطلاع وملاحظة للنفوس والآداب، ولكنك خليق أن

<<  <  ج:
ص:  >  >>