للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

نواةً فمهد لها وأستنبتها فنمت وازدهرت. وفي الأدب القديم نوَيات كثيرة من مثل هذه النواة لم ينتبه لها الذين يدعون إلى العناية بأدب القصة في العربية، ولو قد تنبهوا لها لوجدوا معيناً لا ينضب كان حرياً بأن يمدهم بالمدد بعد المدد لينشئوا في العربية فناً جديداً من غير أن يقطعوا بين ماضينا وحاضرنا في التاريخ الأدبي؛ وبمثل هذا تحيا الآداب العربية وتتجدد، وإلى مثل هذا ينبغي أن تكون دعوة المجددين، لا إلى الاستعارة والاستجداء من أدب الغرب والجري في غبار كتابه وشعرائه

. . . أعترف بأن الرافعي لم يكن يعرف عن فن القصة شيئاً يحمله على معالجتها ويغريه على العناية بها؛ وقد قدمتُ القول بأنه كان يسخر ممن يقصر جهده من الأدباء على معالجة القصة ولا يراه أهلاً لأن يكون من أصحاب امتياز في الأدب؛ إذ لم تكن القصة عنده إلا ضرباً من العبث ولوناً من ألوان الأدب الرخيص لا ينبغي أن تكون هي كلَّ أدب الأديب وفن الكاتب. وقد كان يعيب عليّ لأول عهدي بالكتابة أنني لا أكاد أكتب في غير القصة، وأنني أجعل بعض همي في دراسة الأدب أن أقرأ كل ما أستطيع أن أقرأ عن فن القصة وأسلوبها وطرائقها ومذاهب الكتاب فيها، وكان يرى مني ذلك تخلفاً وعجزاً ونزولا بنفسي غير منزلتها بين أهل الأدب!

على أنه إلى ذلك كان يجد لذة في قراءة القصة على أنها لون من ألوان الرياضة العقلية لا باب من الأدب؛ كما يشاهد رواية في السينما أو يقرأ حادثة في جريدة. وأحسب أنه كان يعتقد - على أنه كان لا يعرف التواضع في الأدب - بأنه لا يحسن أن ينشئ قصة ولا ينبغي له. واحسبه أيضاً حين انشأ قصة سعيد بن المسيب لم يقصد إلى أن تكون قصة، ولكنها هكذا جاءت على غير إرادته فكأنما اكتشف بها نفسه. . .

والحقيقة أن الرافعي كان يملك طبيعة فنية خصبة في القصة، يعرفها من يعرفه في أحاديثه الخاصة بينه وبين أصحابه، حين كان يعتمد العبث والتسلية، فيطوي من الحديث وينشره، ويكتم ويوري، ويورد الخبر إلى مورده، ويهزل ولا يقول إلا الجد؛ ويطوي النادرة إلا أخر الحديث، ويقول في آخر المقال ما كان ينبغي أن يكون في أوله.

وكان له إلى ذلك تعبير رشيق وفكاهة رائقة يخترعها لوقتها لا تملك معها إلا أن تضحك وتدع التوقُّر المصنوع؛ وإن له في هذه الفكاهة لمذاهب عقلية بديعة تحس فيها روحه

<<  <  ج:
ص:  >  >>