للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[سخرية الأقدار]

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

كنت في يوم من الأيام جالساً إلى مكتبي أترقب أن يحمل إلي ساعي البريد (حوالة) مالية. وكنت عاكفاً على الكتابة ولكني كنت أحصى الأبواب والوجوه التي أنفق فيها المبلغ المرقوب. وللذهن قدرة على الاشتغال بأكثر من موضوع واحد في لحظة واحدة. فبينما كنت أجري القلم بوصف ما تعاني فلسطين، وأعرب عما جاشت به نفسي من العواطف من جراء هذه القنابل التي تلقى على باب المسجد الأقصى وفي الأسواق العامرة الغاصة، فتقتل النساء والأطفال والرجال، وتطير أشلاء الإنسان والحيوان وتخلطها بالخضر والفاكهة، واللحم والسمن والعسل، والأنقاض التي تهاوت، والقُفَف التي تبعثر ما فيها؛ وأقول إني أعرف حكومة فلسطين نسفت بيوتاً عدة للعرب، وفرضت غرامات متفاوتة على قراهم الفقيرة، ولا أعرفها هدمت بيت يهودي واحد، أو غرمَّت حياً من أحيائهم أو مستعمرة من مستعمراتهم - أقول بينما كان القلم يسحُّ بهذا كنت أتخيل الثياب الجديدة التي سأشتريها، والأثاث الحديث الذي أحب أن يحل محل القديم في بيتي، والسيارة الجديدة التي سأستبدلها بسيارتي وإن كان عمرها عاماً، وأسأل نفسي هل أستشير المرأة الصالحة التي لا تعترض لي طريقاً، ولا تأخذ عليَّ مُتوَجَّهاً، ولا تنكر من فعلي أو قولي شيئاً، ولا أراها في أي حال إلا راضية، ولا أعرف أن غيرها في هذه الدنيا يمكن أن يطيقني ويحتمل عبثي وسخافاتي وحماقاتي؟

في هذا كله أيضاً كان تفكيري. وكنت أتصور الألوان والثيات والأشكال، وأحاور نفسي وأجادلها، وأتلقى الاعتراضات وأردها، والقلم مع ذلك لا يتوقف ولا يكف عن المضي، وجاءني الخادم بإيصال رسالة بريدية مسجلة لأوقعها، فاستبشرت وقلت: (الحمد لله جاءنا الخير المرتقب. . . خذ يا شاطر فتح الله عليك، ولك. . . (ومددت له يدي بالإيصال) وأسرع. . . عجل، ولك الحلاوة)

وخرج الخادم، وهو يبتسم، وراح هو أيضاً ولا شك يتخيل ما سينعم به في يومه السعيد (بعد أن أعطيته الحلاوة) الموعودة. ومضيت أنا في الكتابة، مغتبطاً، وإن كان القلم يقطر بالنقمة على رؤوس المستعمرين، ورأيتني أدندن، وأنا أجري القلم، ولم لا؟ ألست مسروراً

<<  <  ج:
ص:  >  >>