للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

والصرف، ولا تشرحها المعاجم وأوضاع اللغة، ولكنها في حاجة إلى تلك العاطفة العلوية الفياضة التي لا تقيدها فواصل وحدود، ولا تحدها أبعاد وتخوم!!

والواقع أننا نستبد بعواطفنا كثيراً ونجحد الحق وما هو ثابت من نواميس الحياة إذ نندفع في تيار أولئك الواقعيين فنعتبر العقل كل شيء في تعليل كل ما نرى من المظاهر والظواهر، حتى ما يتصل بميولنا وعواطفنا؛ فأن هناك القلب يجب أن نجعل له اعتباراً كبيراً في شؤون الحياة إلى جانب العقل، ويجب أن نعتقد بأن له منطقاً كمنطق العقل إن لم يكن أرهف وأدق، وهو وحده الذي يشعرنا في رحلة الحياة الشاقة ببرد الراحة، ويقع من نفوسنا اللاغبة موقع الماء العذب من نفس الصادي في اليهماء القاحلة. ولا شك أننا لو طاوعنا هؤلاء الناس وجعلنا العقل كل شيء لصارت الحياة جحيماً لا تطاق، ولفررنا من شقائها كما يفر بعض الناس في هذه الأيام بالموت والانتحار، بل ولتمردنا على كثير من النظم والأوضاع والشرائع الطيبة النافعة التي تكفل السعادة للمجتمع، والتي لا يمكن أن يمجدها أولئك الواقعيون الماديون أنفسهم. وأنت - أبقاك الله - تأمل في نفسك، وانظر فيما يحف بك من النظم الاجتماعية، والقيود الثقيلة التي تربطك بالمجتمع الذي تعيش فيه، والسلاسل والأغلال التي تثقل جيدك وتنقض ظهرك، من واجبات نحو الأسرة، والأب، والأم، والزوجة، والوطن، والدين، والتقاليد، وفكرات الشرف والعرض، وكل ما إلى ذلك، ثم استسلم إلى العقل وحده وانزل على حكمه في فهم تلك الأمور عامتها، تجده يجيبك جواباً لا يرضاه العقل نفسه، لأن الطبيعة قد خصت الإنسان بشيء يمتلك ناصية عقله ويتحكم فيه التحكم كله، شيء آت من الناحية الروحية القلبية التي هي مصدر العواطف والمشاعر فلإنسان - كما يقول العقاد - لا يحيا بالعقل وحده، ولا يفهم بالعقل وحده، ولكنه يحيا بالحياة التي هي مجموعة من الحس والغريزة والعطف والبداهة والخيال والتفكير. فأنت إذا أردت أن (تفهم) إنساناً فليست كل وسائلك إلى فهمه أن تسلط عليه ملكة التحليل والتعليل، بل أنت مشترك في فهمه بخيالك وحسك وغريزتك وتفكيرك وعطفك وجميع أجزاء حياتك، وشأنك في فهم الكون كشأنك في فهم الإنسان أو فهم أي شيء من الأشياء وخاطرة من الخواطر. فقولك (تفهمها) مرادف لقولك تحسها وتتخيلها وتشملها بعطفك وبديهتك وتفكيرك. ولأن تحس ما ينبغي لك عمله دون أن تقوى على تعليل ذلك خير لك وألف خير من أن

<<  <  ج:
ص:  >  >>