للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[الفهم]

وصلته بالحكم الأدبي

للأديب محمد فهمي عبد اللطيف

قرأت فيما قرأت للمرحوم الرافعي كلاماً يقول فيه: إن الذوق الأدبي في شيء إنما هو فهمه، وإن الحكم على شيء إنما هو أثر الذوق فيه، وإن النقد إنما هو الذوق والفهم جميعا!

وهذا الذي قاله الرافعي كلام يتهالك في أوله، بقدر ما يتماسك من آخره. نعم فقد أخطأ الرافعي إذ حسب أن الذوق الأدبي في شيء إنما هو فهمه، فإن الفهم شيء والذوق شيء آخر، وإذا كان الذوق يستلزم الفهم كما يقولون، فان الفهم كثيرا ما ينفك عنه فلا يستلزمه ولا يقتضيه. ولقد يتأتى للشخص أن يفهم الأثر الأدبي على خير ما يكون الفهم، ومع ذلك لا يقع من ذوقه أدنى موقع، كما هو حال كثير من علماء النحو ورجال اللغة!! ولكن الرافعي مصيب من غير شك إذ يرى (أن النقد إنما هو الذوق والفهم جميعا) فأن الناقد إنما تتم له الأداة، ويصح له أن يحكم على الأثر المنقود، إذا ما فهم ألفاظه ومعانيه، ووقف على إشاراته ومراميه، وتلمس له كلَّ وجهٍ يستقيم عليه منطوقاً ومفهوماً، وكل مدلول يقتضيه صريحاً واستلزاما

تلك حقيقة هي من الوضوح إلى حد البداهة، ولكن الدكتور طه حسين نقل كلاما عن الشاعر الفرنسي بول فاليري زعم فيه: أن موت الأثر الفني إنما يأتي من فهم الناس له، فأنت إذا ما قرأت كتاباً وفهمته فقد قتلته وقضيت عليه. فهناك إذن جهاد عنيف بين القارئ والمقروء، فإذا فهم القارئ فقد غلب، وإنما الأثر الفني الخليق بهذا الاسم هو الذي يغلب القارئ ويعجزه، ولكن دون أن يضطره إلى اليأس والقنوط، ومن هنا كان النثر بطبيعة تكوينه أقرب إلى الفهم، وأدنى إلى الهضم! والدكتور طه لا يميز الناقد في هذه الغمرة عن أي قارئ آخر، بل ولا يرضى له أيضا بفهم (الأثر الفني الخليق بهذا الاسم) ليتم لذلك الأثر البقاء كما يقول، ومن ثم طار إلى الأوج بقصيدة (المقبرة البحرية) لصاحبه فاليري، وكل دليله في ذلك أنها استغلقت على النقاد فلم ينفتح لهم فيها باب الفهم، على الرغم مما بذلوا في الفهم ووسعوا في التأويل، وكأني بالدكتور الفاضل قد فاته أن اللغة - في أرقى أوضاعها وفي أحط أوضاعها - ليست إلا سبيل الفهم، والفهم إنما هو أساس المعرفة،

<<  <  ج:
ص:  >  >>