للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[العقيدة الشعرية]

للأستاذ أحمد خاكي

يفرّق النفسيون في العصر الحديث بين الإيمان العلمي والإيمان الشعري. أما الإيمان العلمي فهو الذي يقوم على قواعد المنطق من فرض واستنباط واستقراء، ومن إثبات القضايا أو نفيها. إنه هو الإيمان الذي يقوم على الواقع قبل كل شيء، فهو يصدر عن الأشياء التي تقع في الحس، وهو الإيمان الذي قام على تثبيته أمثال بيكون، وديكارت وهو الذي أقام العلم والفلسفة بما واتى حياتنا المادية من تقدم. أما الإيمان الشعري فيختلف عن ذلك كل الاختلاف، فهو يقوم على جملة من الآثار النفسية تثبت في نفس الفرد عن طريق العادة أو التخيل أو التصور؛ فهو لا يرتكز على حقيقة محسوسة ملحوظة، بل هو فيض خيالي مما تصوره الغريزة أو الرغبة أو الفطرة. وهو بعد ذلك ضرب من اللعب إذا أحسن التعبير عنه كان فناً له خطره

الإيمان العلمي هو إلي يدفعنا إلى درس النجوم وعلاقات بعضها ببعض؛ ولكن الإيمان الشعري هو الذي يحبب إلينا النظر إلى تلك النجوم. الأول نتيجة لدراسة منطقية خارجة عن نفس الإنسان، أما الثاني فهو نتيجة لآثار العوامل الخارجية في نفس الإنسان. الأول يمدنا بالقيم العلمية التي تكاد تثبت في كل زمان ومكان، والثاني بالقيم الأدبية أو الجمالية التي يختلف تقديرها باختلاف المقدَّر والزمان والمكان

ولقد ازدهرت نظرية اللاشعور أو العقل الباطن في هذا القرن حتى أظهرت لنا نوعاً من العقائد الأدبية يعتنقها الشعراء في قرارة أنفسهم دون أن يحسوا بوجودها. وأظهرت لنا كذلك أن الشاعر أو الأديب أو المتفنن قد يكون صاحب عقيدتين في وقت معاً: أولاهما علمية تتصل بحقائق الحياة، والثانية شعرية تتصل بالخيال. وكان لهذه الفكرة خطر في النقد الحديث، لأنها قلبت أوضاع النقد، وثارت بالتقدير العلمي القديم، ونبهت النقدة إلى أن يتدسسوا في أطواء الشاعر حتى يروا معانيه التي كتبها بوحي من عقله الباطن دون أن يكون عليها سلطان من عقله الواعي. وحسبنا من كل ذلك أن نثبت أن الأدب يقوم على هذه العقائد الشعرية، وأن اكمل الشعر هو الذي يصادف مثل هذه العقيدة الشعرية عند سامعيه أو قارئيه

<<  <  ج:
ص:  >  >>