للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[تنظيم الإحسان]

الإحسان في مصر - وإن شئت قلت في بلاد الإسلام - فوضى. وإذا كان للفوضى نظام فهو أن ينال المستطيع ويدرك السريع ويظفر المُلِح. والبؤس يسلب المنة ويعقل القدم؛ فلا يغشى مساقط الندى ومهابط الرحمة إلا من اتخذ الفقر تجارة والتكفف حرفة. أما الذين واراهم التعفف وأقعدهم العجز، فهم يتضاغون من السغوب وراء الحجب، فلا تبصرهم عين، ولا تسمعهم أذن. والناس من هؤلاء العاجزين المتعففين، وأولئك القادرين المتكففين في مأساة تبكي وملهاة تضحك!

دخل علينا القهوة ذات مساء فتى ريان الجسم بالشباب والصحة؛ على رأسه طربوش، وحول عنقه كوفية، وفي يده خيزرانة؛ فحيى بأدب وضراعة، ثم أخذ يسترحم القلوب ويستندي الأكف بأسلوب يخبل العقل النير ويختل الطبع الحريص. وكان خطابه التمثيلي المؤثر يدور على عزته التي لا تألف الهون، وأسرته التي لا تصيب الدُّون، وكفايته التي لا تجد العمل. . . فأعطاه بعض من في المجلس، ثم استدناه صديق من أهل السراء وأرباب الضياع وقال له:

- لِمِلا تطلب العيش من طريق أخلق بالرجولة وأليق بالكرامة؟

- طلبت العمل يا سيدي في كل مكان فلم أجده

- أتقبل العمل عندي في المزرعة؟

فبدا على الفتى شيء من التردد والحرج لأنه أحس الجد في لهجة الرجل، ولكنه سأل:

- وماذا يعطيني ألبك إذا قبلت؟

- ثلاثة جنيهات غير طعامك وكسوتك

فابتسم الفتى ابتسامة فيها معان شتى من الدهش والعجب والتهكم، وقال وهو يدني فمه من أذنه كأنما يريد أن يساَّره:

يا سيدي، إني أسأل في اليوم الواحد ألفاً على الأقل ممن أتوسم فيهم رقة القلب وكرم المهزَّة؛ فإذا أعطاني مائة وردني تسعمائة تجمَّع لي من ذلك في الشهر خمسة عشر جنيها، أصيبها وأنا في القاهرة أتقلب بين مطاعمها ومقاهيها، وأتمتع بمناعمها وملاهيها. فكيف تريدني على أن أقبل ثلاثة جنيهات في الريف على عمل قذر متعب بين الأجلاف والبهائم؟

أرأيت خمسة عشر جنيها يجبيها من الأغرار هذا المتبطل المتعطل وينفقها في الخمر

<<  <  ج:
ص:  >  >>