للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الثقافة هنالك (إلا في البلدان التي يسوسها حاكم بأمره متحمس) واحدة، لأن برنامج التعليم مجرىً على منهاج واحد. فلا فرق بين قس وزنديق من حيث القابلية الذهنية، أعني من حيث إدراك الأمور. أما تأويل الأمور وحكاية رفضها وقبولها فمما يرجع إلى وجهة النظر وميل النفس. ثم لا فرق بين صانع لم يأخذ من العلم إلا طرفاً، وكاتب كشفت له الثقافة عن أدق أسرارها، سوى أن هذا ذهب في التحصيل أبعد من ذاك.

ثقافة معينة أسبابها، واضحة معالمها، تتسع الحين بعد الحين باتساع مجال العلم، ثم مرسومة على قدّ أذهان أهلها.

ومن نتائج هذه الثقافة أن الفكر يظفر بحرية لا تعرف القيد وأن القلم يجري على هواه. فإذا أصاب المنشئ عيباً عالن به، وإذا رأى رأياً بثه غير هياب. فلا تراه يداور في الكتابة أو يتنصل مما كتب. وإذا انتهى العالم ببحثه إلى حقيقة تصرع القضايا المألوفة جهر بها مطمئن الجانب. وإذا بدا لناقد أن يقول قولاً في كتاب أو عمل متصل بشئون التهذيب دونه من دون أن يرقب الرضى أو يخشى السخط.

وتعليل ذلك أن الثقافة هناك منفصلة من الدين ومنزهة عن السياسة. الثقافة مدارها العقل، أما الدين فأمر إيمان، وأما السياسة فمسألة هوى. وكلما بطشت السياسة بالثقافة ألجمتها؛ وكلما مشى إليها الدين حوّلها إلى مجراه وأرساها عند شطئه.

ومن نتائج هذه الثقافة أن برنامج التعليم يقصد إلى تهذيب ملكة التفكير لا إلى حشو خلايا الذهن. فالمتأدب هنالك يطلب القراءة المفيدة لا القراءة المسلية؛ والمنجذب إلى المسرح حقاً يرغب في المسرحيات التي تقوم عنده مقام غذاء لا تلك التي تهز أعصابه كأنها صورة من الصور المتحركة؛ والدائب على قراءة النقد ينتظر حكماً معتدلاً يبذل له شيئاً من الأمر حتى يستوي له رأي لا إطراءً مفرطاً أو ذماً مقيماً؛ وطالب العلم إنما يأخذ أساليب التحصيل والاجتهاد رجاء أن يكب على البحث فيما يأتي من الزمان وهو جد عارف أن (مائدة الثقافة لا تقبل طفيلياً).

ومن خصائص هذه الثقافة أن كل فرد من أهل الأدب يعرف ما له وما عليه. فلا ترى المطلع يهيم على الإنشاء والنقد، ولا القصصي يقبل على كتابة الرسائل الفلسفية، ولا الصحافي يتعرض لنقد المسارح ومعارض الصور، ولا الدعي يغير على مؤلفات غيره

<<  <  ج:
ص:  >  >>