للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من برجنا العاجي]

نفسي بطبيعتها لا تنزع إلى ترف الحياة. ولقد عشت إلى وقت قريب ضالاً. ليس لي بيت مستقر ولا راحة موفورة. ولا حتى مكتبة خاصة تعينني على عملي الأدبي. إلى إن اوهمني بعض الناس أن مكانتي كأديب تقتضي أن أغير هذه الحياة. فأصغيت إلى هذا الكلام واتخذت لي مسكناً أنيقاً في أجمل بقاع القاهرة يشرف على النيل. واقتنيت سيارة جميلة، وجعلت لي مكتبة تزينها التحف والتماثيل. وأكثرت من حولي الخدم يعنون بأمري. وأعجبني قليلاً مظهري هذا الذي يماثل مظهر أدباء أوروبا المشاهير. وغرني الحال. وحسبت أننا نتمتع في الشرق بمثل ما يتمتعون من قوة وحرية ومنعة. فانطلق قلمي مرة يبدي رأياً صريحاً في مسألة قيل أنها تمس السياسة. وإذا أنا أقع فريسة لإجراءات مهينة، فألتفت يميناً وشمالاً أبحث عن عالم الأدب يتولى الدفاع، لا عني بل عن حرية الفكر المهدرة. فلم أجد أحداً من الأدباء قد تحرك. ولم أر صحيفة قد همها الأمر. وخرست كل تلك الجرائد التي طالما رفعت صوتي على صفحاتها، واتفق الكل اتفاقاً طبيعياً على إهمال الموضوع. ولم يحفل أصدقائي ولا زملائي ولا قرائي بما حدث لي. ولم يدركوا الخطر الذي يهدد الأدب والأدباء إذا هم شعروا يوماً أنهم لا يستطيعون أن يخرجوا ما في نفوسهم. (أديب واحد كبر عليه الأمر وأدرك الخطر ونهض في قلق يحادث المسؤولين ويناقشهم، هو كاتب عظيم يعد فخر أدباء الشرق في العصر الحاضر. وصداقته لي معروفة من زمان، وأن كنت مع الأسف لم أقدرها قدرها في كل الأحيان)

على أن الحادث في جملته قد هز عقيدتي في منزلة الأدب وفجعني لا في شخصي، ولاكن في مركز الأديب في الشرق، فقد أيقنت أن ما يسمونه (المكانة الأدبية) إنما هي وهم من الأوهام. وأن الأدباء أنفسهم هم المسئولون في أكثر الأحوال عن انخفاض شأنهم في المجتمع لخذل بعضهم بعضا

وأحسست من نفسي الذلة، فتركت سكني وسيارتي وخدمي، وعدت من جديد أعيش شريداً، كما يستحق أديب في الشرق أن يعيش.

توفيق الحكيم

<<  <  ج:
ص:  >  >>