للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

غزارته، ومفتاح إنتاجه، وأنه يستنزل بها العصم من الأفكار، ويستسمح بها الأبي من المعاني، ولكن هل نجحت كل هذه المحاولات في استكشاف قوانين التجلي.؟ أظن إن نظرة بسيطة تكفي للقول بأنها لم تنجح، فقد تستوفي كل الشروط التي قالوها، فالصحة في أجود حالاتها، والغذاء خير غذاء، والكاتب أو الشاعر مطمئن النفس، هادئ البال، بين الرياض المزهرة، والمياه الجارية، والوجوه الناظرة، وهو مع هذا أجدب ما يكون قريحة، وأنضب ما يكون معيناً، ثم هو يكون على العكس من ذلك كله فيواتيه شيطانه، وتتزاحم في صدره المعاني، وتتبارى على قلمه الآراء والأفكار والألفاظ.

ثم هذا أديب أو شاعر يجود قوله وتتجلى نفسه، في الأماكن الخالية والسكون العميق وذاك لا يأتي له هذا الموقف إلا في الأوساط الصاخبة والحركة المائجة. وأديب لا ينتج إلا إذا امتلأ جيبه واطمأنت نفسه لحاجات الحياة، على حين إن الآخر لا يجد إلا إذا فرغ وطابه. وعضه الفقر بنابه، وتكاثرت عليه الهموم.

فأين قوانين التجلي إذا كان يحدث في البيئة وضدها، والظروف وعكسها؟ قد تكون كل المظاهر وكل ما يحيط بالنفس مع ذلك فياضة جياشة متجلية، وقد تكون المظاهر كلها تدل على نفس متفتحة للعمل، مليئة بالفكر فإذا هي مجدبة متقبضة، وترى الآراء القيمة والمعاني السامية قد تنبع من بيئة قائمة، ونفس مظلمة كما تخرج الزهرة من طين أو كما يخرج الذهب من الرغام، والحرير من الدود، وقد حكي لنا عن أدباء آخرجوا روايات هزلية تستخرج الضحك من أعماق القلب وحالتهم النفسية وقت تأليفها كان يسودها الحزن، ويشيع في جوانبها الألم والبؤس.

أخشى أن يكون الذين قد وضعوا هذه القوانين وأمثالها للحظات التجلي قد تسرعوا في وضعها، فالإنسان معقد كل التعقيد، ولئن كان جسمه معقداً مرة فنفسه وروحانيته وعقله معقدة ألف مرة بل آلافاً، وإن العوامل التي تؤثر في نفسه وروحانيته ليست الحالة البدنية، ولا الغذاء الصالح، ولا المناظر الجميلة، ولا الغنى والفقر، وحدها، بل هنالك عوامل أدق وأعمق واغمض، الإنسان لا يعيش في بدنه وحده، ولا في محيطه فقط، بل إنه ليعيش في أصدقائه الأقربين والأبعدين، وإنه ليعيش في ذريته الذين كانوا وسيكونون، وإنه ليعيش في أحلامه وآلامه وآماله، ويعيش في شبكات من تموجات نفسية دونها بمراحل شبكات

<<  <  ج:
ص:  >  >>