للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

لإمام المسلمين الأستاذ الأكبر

الشيخ محمد مصطفى المراغي

شيخ الجامع الأزهر

في مستهل هذا الشهر العظيم بذكراه، أذعت على العالم الإسلامي نجوى لصاحب الهجرة صلوات الله وسلامه عليه، كان فيها تذكرة وفيها بلاغ. وليس شيء أحب إلى نفسي من إعادة هذا الحديث، فإن التذكير بسيرة رسول الله، وبهجرته في سبيل الله، شفاء لغل الصدور، وجلاء لرْين القلوب، وقوة لضعف الأنفس

إن دعوة الرسول الأعظم كانت في مكة أشبه بالغيث أنزله الله في يباب القفر، ففاض بعضه في سباخ الأرض، واحتبس بعضه في أصلاد الصخور، ثم نفّس الله عنه من شدة الضيق والحصر فانبثقت عنه الحواجز الصم، فجرى سيولاً في السهول والأودية، وتشعّب ينابيع في القرى والمدائن، يحمل الخصب والنماء، ويوزع الري والغذاء، فأحيا موات الأرض، وروى غُلة الناس، وكان منه العمارة والحضارة والخير

نعم كانت هجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام إلى المدينة هي هذا الانبثاق الذي انساح به الإسلام في أقطار الأرض يحمل الهدى للأرواح الحائرة، والسلام للنفوس المحروبة، والألفة للقلوب المختلفة، فسارت الإنسانية في طريق الحياة على ضوئه، تنعم بالإخاء في الدين، وتتمتع بالمساواة في الشريعة؛ فلا عصيبة تزرع الأحقاد وتنشر الفرقة، ولا امتياز في الجنس أو في اللون أو في الثروة يوجب الاستعباد ويقتضي الظلم. وحمل خلفاء الرسول رضوان الله عليهم أجمعين مصباح الهداية وزمام القيادة من بعده، ثم استاروا بسيرته، واستنوا بسنته، فأورثهم الله مللك الأرض، وملكهم مقادة العالم، فقادوه على بصيرة وساسوه عن دراية؛ فكان كتاب الله هو الدستور، وحكمه هو القاضي، وسنة رسوله هي الخطة. فلما ابتعد المسلمون عن مشرق النور وأعرضوا عن الذكر، غشيتهم الغواشي فضلوا وجهة أمرهم، وجهلوا غاية قصدهم، وتفرقوا شيعاً في الضلال، وتدفقوا أحزاباً في الباطل، وأصبح كلام الله على ألسنتهم ألفاظاً لا معاني لها ولا رَجْع منها، فأفلت من أيديهم زمام الأمر، وسلب الله من أعدائهم الرعب منهم، فتقهقروا إلى مؤخرة الركب، وساروا

<<  <  ج:
ص:  >  >>