للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من التاريخ الإسلامي]

هيلانة ولويس

للأستاذ علي الطنطاوي

كل شيء ساكن سكون الموت، مظلم ظلمة القبر!

ولقد أسدل الليل فروعه السود، فغطى على المعركة اللافحة الأوار، وأخفى هذه الساحة المفروشة بالجثث، وهذه الأصلاد المصّبغة بالدم، وأرخى الستار على مشهد من أروع مشاهد المأساة التي يمثلها الإنسان أبداً على مسرح الوجود فيلبس فيها جلد الذئب وأظفار السبع وأنياب الثعبان. . . فسقط جنود المعسكرين صرعى الجهد والكلال، وهجعوا كالقتلى لا يحسّون ولا يحلمون، وأمست خيامهم ومنازلهم جامدة لا حياة فيها كهذه الصخور الصّم التي تحيط بها من كل جانب. . .

وتلك هي الحرب، آفة الحياة، وعار الإنسانية!

تلك هي الحرب: تنفجر الأذهان بالعلوم والمعارف، وتنفرج الأيدي عن الصنائع والمصانع، واللطائف والزخارف، وينفق الوالدون النفس والنفيس لتنشئة الأولاد وتهذيبهم، فإذا استكمل البنون الفتوة والقوة، وأزهرت الفنون وتقدمت، وارتفعت المصانع وسمت، وأخذت الحياة زخرفها وازيّنت، جاءت الحرب فأودت بذلك كله، فجعلته حصيداً كأن لم يغن بالأمس. . .

فيا ويل الحرب. . . ويل لها ما لم تكن دفاعاً عن شرف أو حياة أو دين!

كل شيء ساكن سكون الموت، مظلم ظلمة القبر، إلا خيمة في معسكر النصارى نائية ينبعث من شقوقها وفرجها ضوء خافت، ويسمع من جوفها همس ضعيف، لو أنت أصغيت إليه لسمعت صوت امرأة تتكلم بلسان الإفرنج تقول لصاحبة لها:

- ماذا يشجيك الليلة يا هيلانة، وما الذي جدّد أحزانك، وهاج آلامك؟ أفزعت من هذه المعارك العابسة التي جئنا نخوضها ونصلى نارها دفاعاً عن (قبر. . .) المسيح؟ أم هو الحزن على لويس قد خامر نفسك؟ لا تحزني يا هيلانة فقد كان مقدراً عليه هذا المصير؛ ولقد عرفه ومشى إليه مطمئناً راضياً، فاصبري يا أختاه، فإن لويس في السماء. ألا يسرك أنه مات في سبيل النصرانية؟ فلا تدعي اليأس يخالط نفسك القوية في هذه الساعة التي

<<  <  ج:
ص:  >  >>