للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وأقبل للنظر العميق؛ ولذلك نرى سعة المعارف أبين في كتابة ابن المقفع والجاحظ، وبديع الزمان والتوحيدي، وابن العميد، وابن شهيد، منها في شعر أبي نواس والبحتري وأبي فراس. وربما يقارن انتشار العلوم ضعف الأدب لأسباب أخرى كسوء السياسة، وقلة المكافأة، والإسراف في الترف. وليس الضعف من انتشار العلوم، ولكن من هذه الأحوال المقارنة

فإذا رأينا القرن الخامس الهجري أوسع علماً وفلسفة من القرنين الثالث والرابع ولكنه في الجملة أضعف أدباً منهما، فذلك لا يرجع إلى اتساع المعارف بل يرجع إلى أسباب أخرى

وإذا رأينا الأدب قليلاً بين العلماء المنقطعين للعلوم فذلك بما اغفلوا الأدب أو قلت عنايتهم به؛ أو لأن فطرتهم التي وجهتهم إلى درس العلوم لا يلائمها درس الآداب. فأما إذا تساوى اثنان في الفطرة الأدبية والاتجاه إلى الأدب فأوسعهم معرفة أعظمهم أدباً وأقرب إلى نفوس الخاصة من الناس. وربما يفوقهم الآخرون حظوة عند العامة بما شاركوهم في الشعور ولم يرتقوا عنهم بالمعرفة والفكر كثيراً

٢ - الأحوال الاقتصادية:

إذا شغلت الأمة بتحصيل قوتها وأنفقت معظم وقتها في كسب معيشتها لم تزدهر فيها العلوم والآداب والصناعات. وإذا وجدت فراغاً بعد تحصيل القوت انصرفت إلى شئون الحضارة من العلم والأدب وغيرهما

فانتظام ثروة الأمة ورغد عيشها يعين على إزهار الآداب بما تجد النفوس من فراغ وبما يكثر أمامها من ألوان الحضارة وبدائع الصناعة والعمران التي تحرك الشعور للبيان

وانظر الحجاز قبل الإسلام وفي صدر الإسلام ثم بعد قرون تجد خلافاً بيناً في الثروة وفي الشعر. فالعرجيّ وعمر بن أبي ربيعه وكُثّير وابن قيس الرقيات، يبنون عن شعور دقيق وإحساس رقيق لم يكن لشعراء الحجاز قبلاً

وانظر ما فعلت مراثي الحضارة بالبحتري في وصف قصور الخلفاء، وما وصف شعراء الأندلس من مظاهر العمران والنعيم

وإن يكن إلحاح الفقر أحياناً يجوّد الأدب في بعض الناس فذلك يكون في أمة قد مكّنها ثروتها العامة أن تنتج أدباً. وأما الأمة التي يعمها الفقر وتُبرّح بها الفاقة، فلا ينبغ فيها

<<  <  ج:
ص:  >  >>